وإذا كان بخلاف ذلك أتبعوا الاستفهام بحال وهو الغالب كقوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) [الصافات : ٢٥] (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] ولذلك قال بعض النحاة : مثل هذا الكلام لا يتم بدون ذكر حال بعده ، فالخلاف بين كلامهم وكلام الزجاج لفظي.
وجملة : (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) استفهام يتنزل منزلة البيان لما في جملة : (فَما لَكُمْ) من الإجمال ولذلك فصلت عنها فهو مثله استفهام تعجيبي من حكمهم الضال إذ حكموا بإلهية من لا يهتدي فهو تعجيب على تعجيب. ولك أن تجعل هذه الجملة دليلا على حال محذوفة.
(وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦))
عطف على جملة : (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) [يونس : ٣٥] باعتبار عطف تلك على نظيرتيها المذكورتين قبلها ، فبعد أن أمر الله رسوله بأن يحجهم فيما جعلوهم آلهة وهي لا تصرف ولا تدبير ولا هداية لها ، أعقب ذلك بأن عبادتهم إياها اتّباع لظن باطل ، أي لوهم ليس فيه شبهة حق.
والضمير في قوله : (أَكْثَرُهُمْ) عائد إلى أصحاب ضمير (شُرَكائِكُمْ) [يونس : ٣٥] وضمير (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس : ٣٥].
وإنما عمّهم في ضمائر (شُرَكائِكُمْ) و (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ، وخصّ بالحكم في اتّباعهم الظن أكثرهم ، لأن جميع المشركين اتفقوا في اتباع عبادة الأصنام. وبين هنا أنهم ليسوا سواء في الاعتقاد الباعث لهم على عبادتها إيماء إلى أن من بينهم عقلاء قليلين ارتقت مدارك أفهامهم فوق أن يعتقدوا أن للأصنام تصرفا ولكنهم أظهروا عبادتها تبعا للهوى وحفظا للسيادة بين قومهم. والمقصود من هذا ليس هو تبرئة للذين عبدوا الأصنام عن غير ظن بإلهيتها فإنهم شر من الذين عبدوها عن تخيل ، ولكن المقصود هو زيادة الاستدلال على بطلان عبادتها حتى أن من عبّادها فريقا ليسوا مطمئنين لتحقق إلهيتها. وبالتأمل يظهر أن هؤلاء هم خاصة القوم وأهل الأحلام منهم لأن المقام مقام تخطئة ذلك الظن. ففيه إيقاظ لجمهورهم ، وفيه زيادة موعظة لخاصتهم ليقلعوا عن الاستمرار في عبادة ما لا تطمئن إليه قلوبهم. وهذا كقوله الآتي : (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ)