ولما اختصت (أَمْ) بعطف الاستفهام كان الاستفهام مقدرا معها حيثما وقعت ، فالاستفهام الذي تشعر به (أم) استفهام تعجيبي إنكاري ، والمعنى : بل أيقولون افتراه بعد ما تبين لهم من الدلائل على صدقه وبراءته من الافتراء.
ومن بديع الأسلوب وبليغ الكلام أن قدم وصف القرآن بما يقتضي بعده عن الافتراء وبما فيه من أجل صفات الكتب ، وبتشريف نسبة إلى الله تعالى ثم أعقب ذلك بالاستفهام عن دعوى المشركين افتراء ليتلقى السامع هذه الدعوى بمزيد الاشمئزاز والتعجب من حماقة أصحابها فلذلك جعلت دعواهم افتراءه في حيز الاستفهام الإنكاري التعجيبي.
وقد أمر الله نبيه أن يجيبهم عن دعوى الافتراء بتعجيزهم ، وأن يقطع الاستدلال عليهم ، فأمرهم بأن يأتوا بسورة مثله. والأمر أمر تعجيز ، وقد وقع التحدي بإتيانهم بسورة تماثل سورة القرآن ، أي تشابهه في البلاغة وحسن النظم. وقد تقدم تقرير هذه المماثلة عند تفسير قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) في سورة البقرة [٢٣].
وقوله : (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) هو كقوله في آية البقرة [٢٣] : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، ومعنى (صادِقِينَ) هنا ، أي قولكم أنه افترى ، لأنه إذا أمكنه أن يفتريه أمكنكم أنتم معارضته فإنكم سواء في هذه اللغة العربية.
وحذف مفعول (اسْتَطَعْتُمْ) لظهوره من فعل (ادعوا) ، أي من استطعتم دعوته لنصرتكم وإعانتكم على تأليف سورة مثل سور القرآن.
(بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩))
(بَلْ) إضراب انتقالي لبيان كنه تكذيبهم ، وأن حالهم في المبادرة بالتكذيب قبل التأمل أعجب من أصل التكذيب إذ إنهم بادروا إلى تكذيبه دون نظر في أدلة صحته التي أشار إليها قوله : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ) [يونس : ٣٧].
والتكذيب : النسبة إلى الكذب ، أو الوصف بالكذب سواء كان من اعتقاد أم لم يكنه.