واختيار التعبير عن القرآن بطريق الموصولية في قوله : (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) لما تؤذن به صلة الموصول من عجيب تلك الحالة المنافية لتسليط التكذيب ، فهم قد كذبوا قبل أن يختبروا ، وهذا من شأن الحماقة والجهالة.
والإحاطة بالشيء : الكون حوله كالحائط ، وقد تقدم آنفا في قوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢]. ويكنى بها عن التمكن من الشيء بحيث لا يفوت منه. ومنه قوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١٠] وقوله : (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) [الجن : ٢٨] أي علمه ، فمضى (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) بما لم يتقنوا علمه.
والباء للتعدية. وشأنها مع فعل الإحاطة أن تدخل على المحاط به وهو المعلوم ، وهو هنا القرآن. وعدل عن أن يقال بما لم يحيطوا به علما أو بما لم يحط علمهم به إلى (بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) للمبالغة إذ جعل العلم معلوما. فأصل العبارة قبل النفي أحاطوا بعلمه أي أتقنوا علمه أشد إتقان فلما نفي صار لم يحيطوا بعلمه ، أي وكان الحق أن يحيطوا بعلمه لأن توفر أدلة صدقة يحتاج إلى زيادة تأمل وتدقيق نظر بحيث يتعين على الناظر علم أدلته ثم إعادة التأمل فيها وتسليط علم على علم ونظر على نظر بحيث تحصل الإحاطة بالعلم. وفي هذا مبالغة في فرط احتياجه إلى صدق التأمل ، ومبالغة في تجهيل الذين بادروا إلى التكذيب من دون تأمل في شيء حقيق بالتأمل بعد التأمل.
والمعنى أنهم سارعوا إلى التكذيب بالقرآن في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره وقبل أن يتدبروه. وإنما يكون مثل هذا التكذيب عن مكابرة وعداوة لا عن اعتقاد كونه مكذوبا. ثم إن عدم الإحاطة بعلمه متفاوت : فمنه عدم بحت وهو حال الدهماء ، ومنه عدم في الجملة وهو ما يكون بضرب من الشبهة والتردد أو يكون مع رجحان صدقه ولكن لا يحيط بما يؤدي إليه التكذيب من شديد العقاب. ونظير هذه الآية في سورة النمل [٨٤] (قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
وجملة : (وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ) معطوفة على الصلة ، أي كذبوا بما لمّا يأتهم تأويله. وهذا ارتقاء في وصفهم بقلة الأناة والتثبت ، أي لو انتظروا حتى يأتيهم تأويل القرآن ، أي ما يحتاج منه إلى التأويل بل هم صمموا على التكذيب قبل ظهور التأويل.
والتأويل : مشتق من آل إذا رجع إلى الشيء. وهو يطلق على تفسير اللفظ الذي خفي معناه تفسيرا يظهر المعنى ، فيؤول واضحا بعد أن كان خفيا ، ومنه قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧] الآية. وهو بهذا الإطلاق قريب من معنى التفسير. وقد مرّ في