تتضمن آيات عظيمة يجلوها النظر الصحيح والتفكير المجرد عن الأوهام. ولذلك أجرى صفة التفكير على لفظ قوم إشارة إلى أن التفكير المتكرر المتجدد هو صفة راسخة فيهم بحيث جعلت من مقومات قوميتهم ، أي جبلتهم كما بيناه في دلالة لفظ قوم على ذلك عند قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].
وفي هذا إيماء إلى أن الذين نسبوا أنفسهم إلى التفكير من الطبائعيين فعللوا صدور الموجودات عن المادة ونفوا الفاعل المختار ما فكروا إلا تفكيرا قاصرا مخلوطا بالأوهام ليس ما تقتضيه جبلة العقل إذ اشتبهت عليهم العلل والمواليد ، بأصل الخلق والإيجاد.
وجيء في التفكير بالصيغة الدالة على التكلف وبصيغة المضارع للإشارة إلى تفكير شديد ومكرر.
والتفكير تقدم عند قوله تعالى : (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) في سورة الأنعام [٥٠].
(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))
لله بلاغة القرآن في تغيير الأسلوب عند الانتقال إلى ذكر النعم الدالة على قدرة الله تعالى فيما ألهم الناس من العمل في الأرض بفلحها وزرعها وغرسها والقيام عليها ، فجاء ذلك معطوفا على الأشياء التي أسند جعلها إلى الله تعالى ، ولكنه لم يسند إلى الله حتى بلغ إلى قوله : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) ، لأن ذلك بأسرار أودعها الله تعالى فيها هي موجب تفاضلها. وأمثال هذه العبر ، ولفت النظر مما انفرد به القرآن من بين سائر الكتب.
وأعيد اسم (الْأَرْضِ) الظاهر دون ضميرها الذي هو المقتضى ليستقل الكلام ويتجدد الأسلوب ، وأصل انتظام الكلام أن يقال : جعل فيها زوجين اثنين ، وفيها قطع متجاورات ، فعدل إلى هذا توضيحا وإيجازا.
والقطع : جمع قطعة بكسر القاف ، وهي الجزء من الشيء تشبيها لها بما يقتطع. وليس وصف القطع بمتجاورات مقصودا بالذات في هذا المقام إذ ليس هو محل العبرة بالآيات ، بل المقصود وصف محذوف دل عليه السياق تقديره ؛ مختلفات الألوان