الظلال واقعة على الأرض وقوع الساجد ، فإذا كان من الناس من يأبى السجود لله أو يتركه اشتغالا عنه بالسجود للأصنام فقد جعل الله مثاله شاهدا على استحقاق الله السجود إليه شهادة رمزية. ولو جعل الله الشمس شمسين متقابلتين على السواء لانعدمت الظلال ، ولو جعل وجه الأرض شفافا أو لامعا كالماء لم يظهر الظل عليه بيّنا. فهذا من رموز الصنعة التي أوجدها الله وأدقّها دقة بديعة. وجعل نظام الموجودات الأرضية مهيئة لها في الخلقة لحكم مجتمعة ، منها : أن تكون رموزا دالّة على انفراده تعالى بالإلهية ، وعلى حاجة المخلوقات إليه ، وجعل أكثرها في نوع الإنسان لأن نوعه مختص بالكفران دون الحيوان.
والغرض من هذا الاستدلال الرمزي التنبيه لدقائق الصنع الإلهي كيف جاء على نظام مطّرد دال بعضه على بعض ، كما قيل :
وفي كل شيء له آية تدلّ |
|
على أنه الواحد |
والاستدلال مع ذلك على أن الأشياء تسجد لله لأن ظلالها واقعة على الأرض في كل مكان وما هي مساجد للأصنام وأن الأصنام لها أمكنة معينة هي حماها وحريمها وأكثر الأصنام ، في البيوت مثل : العزى وذي الخلصة وذي الكعبات حيث تنعدم الظلال في البيوت.
وهذه الآية موضع سجود من سجود القرآن ، وهي السجدة الثانية في ترتيب المصحف باتفاق الفقهاء. ومن حكمة السجود عند قراءتها أن يضع المسلم نفسه في عداد ما يسجد لله طوعا بإيقاعه السجود. وهذا اعتراف فعلي بالعبودية لله تعالى.
(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا)
لما نهضت الأدلة الصريحة بمظاهر الموجودات المتنوعة على انفراده بالإلهية من قوله : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) [سورة الرعد : ٢] وقوله : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) [سورة الرعد : ٣] وقوله : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) [سورة الرعد : ٨] وقوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) [سورة الرعد : ١٢] الآيات ، وبما فيها من دلالة رمزية دقيقة من قوله : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) [سورة الرعد : ١٤] وقوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ) [سورة الرعد : ١٥] إلى آخرها لا جرم تهيّأ المقام لتقرير المشركين تقريرا لا يجدون معه عن الإقرار مندوحة ، ثم لتقريعهم على الإشراك تقريعا لا يسعهم إلّا تجرّع مرارته ، لذلك استؤنف الكلام وافتتح بالأمر بالقول تنويها بوضوح الحجّة.