والمراد بالحياة الدنيا وبالآخرة نعيمهما بقرينة السياق ، فالكلام من إضافة الحكم إلى الذات والمراد أحوالها.
و (فِي) ظرف مستقر حال من (الْحَياةُ الدُّنْيا). ومعنى (فِي) الظرفية المجازية بمعنى المقايسة ، أي إذا نسبت أحوال الحياة الدنيا بأحوال الآخرة ظهر أن أحوال الدنيا متاع قليل ، وتقدم عند قوله : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) في سورة براءة [٣٨].
والمتاع : ما يتمتع به وينقضي. وتنكيره للتقليل كقوله : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ* مَتاعٌ قَلِيلٌ) [سورة آل عمران : ١٩٦ ـ ١٩٧].
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (٢٧))
عطف غرض على غرض وقصة على قصة. والمناسبة ذكر فرحهم بحياتهم الدنيا وقد اغتروا بما هم عليه من الرزق فسألوا تعجيل الضرّ في قولهم : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [سورة الأنفال : ٣٢]. وهذه الجملة تكرير لنظيرتها السابقة (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) [سورة الرعد : ٧]. فأعيدت تلك الجملة إعادة الخطيب كلمة من خطبته ليأتي بما بقي عليه في ذلك الغرض بعد أن يفصل بما اقتضى المقام الفصل به ثم يتفرغ إلى ما تركه من قبل ، فإنه بعد أن بينت الآيات السابقة أنّ الله قادر على أن يعجل لهم العذاب ولكن حكمته اقتضت عدم التنازل ليتحدى عبيده فتبين ذلك كله كمال التبيين. وكل ذلك لا حق بقوله : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سورة الرعد : ٥] ، وعود إلى المهم من غرض التنويه بآية القرآن ودلالته على صدق الرسولصلىاللهعليهوسلم ، ولهذا أطيل الكلام على هدي القرآن عقب هذه الجملة.
ولذلك تعين أن موقع جملة (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) موقع الخبر المستعمل في تعجيب الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ من شدة ضلالهم بحيث يوقن من شاهد حالهم أن الضلال والاهتداء بيد الله وأنهم لو لا أنهم جبلوا من خلقة عقولهم على اتباع الضلال لكانوا مهتدين لأن أسباب الهداية واضحة.
وتحت هذا التعجيب معان أخرى :