وهذا فريق آخر أيضا أهل الكتاب وهو منقسم أيضا في تلقي القرآن فرقتين : فالفريق الأول صدّقوا بالقرآن وفرحوا به وهم الذين ذكروا في قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) في سورة العقود [٨٣] ، وكلهم من النصارى مثل ورقة بن نوفل وكذلك غيره ممن بلغهم القرآن أيام مقام النبيصلىاللهعليهوسلم بمكة قبل أن تبلغهم دعوة النبي صلىاللهعليهوسلم فإن اليهود كانوا قد سرّوا بنزول القرآن مصدّقا للتوراة ، وكانوا يحسبون دعوة النبي صلىاللهعليهوسلم مقصورة على العرب فكان اليهود يستظهرون بالقرآن على المشركين ، قال تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة البقرة : ٨٩]. وكان النصارى يستظهرون به على اليهود ؛ وفريق لم يثبت لهم الفرح بالقرآن وهم معظم اليهود والنصارى البعداء عن مكة وما كفر الفريقان به إلا حين علموا أن دعوة الإسلام عامة.
وبهذا التفسير تظهر بلاغة التعبير عنهم ب (يَفْرَحُونَ) دون يؤمنون. وإنما سلكنا هذا الوجه بناء على أن هذه السورة مكية كان نزولها قبل أن يسلم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وبعض نصارى نجران وبعض نصارى اليمن ، فإن كانت السورة مدينة أو كان هذا من المدني فلا إشكال. فالمراد بالذين آتيناهم الكتاب الذين أوتوه إيتاء كاملا ، وهو المجرد عن العصبية لما كانوا عليه وعن الحسد ، فهو كقوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [سورة البقرة : ١٢١].
فالأظهر أن المراد بالأحزاب أحزاب الذين أوتوا الكتاب ، كما جاء في قوله تعالى : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) في سورة مريم [٣٧] ، أي ومن أحزابهم من ينكر بعض القرآن ، فاللام عوض عن المضاف إليه. ولعل هؤلاء هم خبثاؤهم ودهاتهم الذين توسموا أن القرآن يبطل شرائعهم فأنكروا بعضه ، وهو ما فيه من الإيماء إلى ذلك من إبطال أصول عقائدهم مثل عبودية عيسى ـ عليهالسلام ـ بالنسبة للنصارى ، ونبوءته بالنسبة لليهود.
وفي التعبير عنهم بالأحزاب إيماء إلى أن هؤلاء هم المتحزبون المتصلبون لقومهم ولما كانوا عليه. وهكذا كانت حالة اضطراب أهل الكتاب عند ما دمغتهم بعثة النبي صلىاللهعليهوسلم وأخذ أمر الإسلام يفشو.
(قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ)