حصول تعبيره ليكون أوقع ، إذ ليس مثله مظنة أن يكون بين المساجين.
(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦))
الخطاب بالنداء مؤذن بقول محذوف في الكلام ، وأنه من قول الذي نجا وادكر بعد أمة. وحذف من الكلام ذكر إرساله ومشيه ووصوله ، إذ لا غرض فيه من القصة. وهذا من بديع الإيجاز.
و (الصِّدِّيقُ) أصله صفة مبالغة مشتقة من الصّدق ، كما تقدم عند قوله تعالى : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) في سورة العقود [٧٥] ، وغلب استعمال وصف الصدّيق استعمال اللقب الجامع لمعاني الكمال واستقامة السلوك في طاعة الله تعالى ، لأن تلك المعاني لا تجتمع إلا لمن قوي صدقه في الوفاء بعهد الدين.
وأحسن ما رأيت في هذا المعنى كلمة الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن قال : «الصديقون هم دوين الأنبياء». وهذا ما يشهد به استعمال القرآن في آيات كثيرة مثل قوله : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) [سورة النساء : ٦٩] الآية ، وقوله : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [سورة المائدة : ٧٥]. ومنه ما لقّب النبي صلىاللهعليهوسلم أبا بكر بالصدّيق في قوله في حديث رجف جبل أحد «أسكن أحد فإنما عليك نبيء وصدّيق وشهيدان». من أجل ذلك أجمع أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ومنهم علي بن أبي طالب ـ كرّم الله وجهه ـ على أن أبا بكر ـ رضياللهعنه ـ أفضل الأمة بعد النبيصلىاللهعليهوسلم. وقد جمع الله هذا الوصف مع صفة النبوءة في قوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) في سورة مريم [٥٦].
وقد يطلق الصدّيق على أصل وصفه ، كما في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [سورة الحديد : ١٩] على أحد تأويلين فيها.
فهذا الذي استفتى يوسف ـ عليهالسلام ـ في رؤيا الملك وصف في كلامه ـ يوسف ـ عليهالسلام ـ بمعنى يدل عليه وصف الصدّيق في اللسان العربي ، وإنما وصفه به عن خبرة وتجربة اكتسبها من مخالطة يوسف ـ عليهالسلام ـ في السجن.
فضمّ ما ذكرناه هنا إلى ما تقدم عند قوله تعالى : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) في سورة العقود