وفي ذلك إيماء إلى أن بقاء الضلالة من كسب أنفسهم ؛ ولكن ورد في آيات أخرى أن الله يضلّ الضالّين ، كما في قوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [سورة الأنعام : ١٢٥] ، وقوله عقب هذا (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) [سورة النحل: ٣٧] على قراءة الجمهور ، ليحصل من مجموع ذلك علم بأن الله كوّن أسبابا عديدة بعضها جاء من توالد العقول والأمزجة واقتباس بعضها من بعض ، وبعضها تابع للدعوات الضالّة بحيث تهيّأت من اجتماع أمور شتّى لا يحصيها إلا الله ، أسباب تامّة تحول بين الضالّ وبين الهدى. فلا جرم كانت تلك الأسباب هي سبب حقّ الضلالة عليهم ، فباعتبار الأسباب المباشرة كان ضلالهم من حالات أنفسهم ، وباعتبار الأسباب العالية المتوالدة كان ضلالهم من لدن خالق تلك الأسباب وخالق نواميسها في متقادم العصور. فافهم.
ثم فرّع على ذلك الأمر بالسير في الأرض لينظروا آثار الأمم فيروا منها آثار استئصال مخالف لأحوال الفناء المعتاد ، ولذلك كان الاستدلال بها متوقّفا على السير في الأرض ، ولو كان المراد مطلق الفناء لأمرهم بمشاهدة المقابر وذكر السّلف الأوائل.
(إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧))
استئناف بياني ، لأن تقسيم كل أمّة ضالّة إلى مهتد منها وباق على الضلال يثير سؤالا في نفس النبي صلىاللهعليهوسلم عن حال هذه الأمّة : أهو جار على حال الأمم التي قبلها ، أو أن الله يهديهم جميعا. وذلك من حرصه على خيرهم ورأفته بهم ، فأعلمه الله أنه مع حرصه على هداهم فإنهم سيبقى منهم فريق على ضلاله.
وفي الآية لطيفتان :
الأولى : التعريض بالثناء على النبي صلىاللهعليهوسلم في حرصه على خيرهم مع ما لقيه منهم من الأذى الذي شأنه أن يثير الحنق في نفس من يلحقه الأذى ؛ ولكن نفس محمد صلىاللهعليهوسلم. مطهّرة من كل نقص ينشأ عن الأخلاق الحيوانية.
واللطيفة الثانية : الإيماء إلى أن غالب أمّة الدعوة المحمّدية سيكونون مهتدين وأن الضلال منهم فئة قليلة ، وهم الذين لم يقدر الله هديهم في سابق علمه بما نشأ عن خلقه وقدرته من الأسباب التي هيّأت لهم البقاء في الضلال.