الحكم الحاقّة بإنزال القرآن فإنها كثيرة ، فمنها أن يبيّنه النبي صلىاللهعليهوسلم فتحصل فوائد العلم والبيان ، كقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران : ١٨٧].
وليس في هذه الآية دليل لمسائل تخصيص القرآن بالسّنة ، وبيان مجمل القرآن بالسنّة ، وترجيح دليل السنّة المتواترة على دليل الكتاب عند التعارض المفروضات في أصول الفقه إذ كل من الكتاب والسنّة هو من تبيين النبي صلىاللهعليهوسلم إذ هو واسطته.
عطف (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) حكمة أخرى من حكم إنزال القرآن ، وهي تهيئة تفكّر الناس فيه وتأمّلهم فيما يقرّبهم إلى رضى الله تعالى. فعلى الوجه الأول في تفسير (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) يكون المراد أن يتفكّروا بأنفسهم في معاني القرآن وفهم فوائده ، وعلى الوجه الثاني أن يتفكّروا في بيانك ويعوه بأفهامهم.
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥))
بعد أن ذكرت مساويهم ومكائدهم وبعد تهديدهم بعذاب يوم البعث تصريحا وبعذاب الدنيا تعريضا ، فرع على ذلك تهديدهم الصريح بعذاب الدنيا بطريق استفهام التعجيب من استرسالهم في المعاندة غير مقدّرين أن يقع ما يهدّدهم به الله على لسان رسولهصلىاللهعليهوسلم فلا يقلعون عن تدبير المكر بالنبيء صلىاللهعليهوسلم فكانت حالهم في استرسالهم كحال من هم آمنون بأس الله. فالاستفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالتوبيخ.
و (الَّذِينَ مَكَرُوا) : هم المشركون.
والمكر تقدم في قوله تعالى : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) في هذه السورة.
وقوله تعالى : (السَّيِّئاتِ) صفة لمصدر (مَكَرُوا) محذوفا يقدّر مناسبا لتأنيث صفته. فالتقدير : مكروا المكرات السيئات ، كما وصف المكر بالسيّئ في قوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [سورة فاطر : ٤٣]. والتأنيث في مثل هذا يقصد منه الدلالة على معنى الخصلة أو الفعلة ، كالغدرة للغدر.
ويجوز أن يضمن (مَكَرُوا) معنى (اقترفوا) فانتصب (السَّيِّئاتِ) على المفعولية به. ويجوز أن يكون منصوبا على نزع الخافض وهو باء الجرّ التي معناها الآلة.