ولما كانت بيوت النحل معروفة للمخاطبين اكتفي في الاعتبار بها بالتّنبيه عليها والتذكير بها.
وأشير إلى أنها تتّخذ في أحسن البقاع من الجبال أو الشجر أو العرش دون بيوت الحشرات الأخرى ، وذلك لشرفها بما تحتويه من المنافع ، وبما تشتمل عليه من دقائق الصّنعة ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى في ضدّها : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) [سورة العنكبوت : ٤١].
وتقدم الكلام على الجبال عند قوله تعالى : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) في سورة البقرة [٢٦٠].
و (مِنَ) الداخلة على (الْجِبالِ) وما عطف عليها بمعنى (في) ، وأصلها (مِنَ) الابتدائية ، فالتعبير بها دون (في) الظرفية لأن النحل تبني لنفسها بيوتا ولا تجعل بيوتها جحور الجبال ولا أغصان الشجر ولا أعواد العريش وذلك كقوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [سورة البقرة : ١٢٥]. وليست مثل (من) التي في قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً) [سورة النحل : ٨١].
و «ما يعرشون» أي ما يجعلونه عروشا ، جمع عرش ، وهو مجلس مرتفع على الأرض في الحائط أو الحقل يتّخذ من أعواد ويسقف أعلاه بورق ونحوه ليكون له ظل فيجلس فيه صاحبه مشرفا على ما حوله.
يقال : عرش ، إذا بنى ورفع ، ومنه سمّي السرير الذي يرتفع عن الأرض ليجلس عليه العظماء عرشا.
وتقدم عند قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ) في سورة الأنعام [١٤١] ، وقوله تعالى : (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) في سورة الأعراف [١٣٧].
وقرأ جمهور القراء ـ بكسر راء ـ (يَعْرِشُونَ). وقرأه ابن عامر ـ بضمّها ـ.
و (ثُمَ) للترتيب الرتبي ، لأن إلهام النحل للأكل من الثمرات يترتّب عليه تكوّن العسل في بطونها ، وذلك أعلى رتبة من اتخاذها البيوت لاختصاصها بالعسل دون غيرها من الحشرات التي تبني البيوت ، ولأنه أعظم فائدة للإنسان ، ولأن منه قوتها الذي به بقاؤها. وسمّي امتصاصها أكلا لأنها تقتاته فليس هو بشرب.