الطفل حين يولد لم يكن له علم بشيء ثم تأخذ حواسّه تنقل الأشياء تدريجا فجعل الله في الطفل آلات الإدراك وأصول التفكّر.
فقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) تفسيره أنه أوجد فيكم إدراك السمع والبصر والعقل ، أي كوّنها في الناس حتى بلغت مبلغ كمالها الذي ينتهي بها إلى علم أشياء كثيرة ، كما دلّت عليه مقابلته بقوله تعالى : (لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) ، أي فعلمتم أشياء.
ووجه إفراد السّمع وجمع الأبصار تقدم عند قوله تعالى : (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) في سورة يونس [٣١] ، وقوله تعالى ؛ (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ) في سورة الأنعام [٤٦].
و (الْأَفْئِدَةَ) : جمع الفؤاد ، وأصله القلب. ويطلق كثيرا على العقل وهو المراد هنا.
فالسمع والبصر أعظم آلات الإدراك إذ بهما إدراك أهم الجزئيّات ، وهما أقوى الوسائل لإدراك العلوم الضرورية.
فالمراد بالسمع : الإحساس الذي به إدراك الأصوات الذي آلته الصماخ ، وبالإبصار: الإحساس المدرك للذّوات الذي آلته الحدقة. واقتصر عليهما من بين الحواس لأنهما أهمّ ، ولأن بهما إدراك دلائل الاعتقاد الحقّ.
ثم ذكر بعدهما الأفئدة ، أي العقل مقرّ الإدراك كلّه ، فهو الذي تنقل إليه الحواس مدركاتها ، وهي العلم بالتصوّرات المفردة.
وللعقل إدراك آخر وهو إدراك اقتران أحد المعلومين بالآخر ، وهو التصديقات المنقسمة إلى البديهيّات : ككون نفي الشيء وإثباته من سائر الوجوه لا يجتمعان ، وككون الكلّ أعظم من الجزء.
وإلى النظريات وتسمّى الكسبيّات ، وهي العلم بانتساب أحد المعلومين إلى الآخر بعد حركة العقل في الجمع بينهما أو التّفريق ، مثل أن يحضر في العقل : أن الجسم ما هو ، وأن المحدث ـ بفتح الدال ـ ما هو. فإن مجرد هذين التصوّرين في الذهن لا يكفي في جزم العقل بأن الجسم محدث بل لا بد فيه من علوم أخرى سابقة وهي ما يدلّ على المقارنة بين ماهية الجسمية وصفة الحدوث.
فالعلوم الكسبية لا يمكن اكتسابها إلا بواسطة العلوم البديهية. وحصول هذه العلوم