يأتي في خلال ذلك من الحقائق العلمية والدقائق الكونية ، ووصف أحوال الأمم ، وأسباب فلاحها وخسارها ، والموعظة بآثارها بشواهد التاريخ ، وما يتخلّل ذلك من قوانينهم وحضاراتهم وصنائعهم.
وفي خلال ذلك كلّه أسرار ونكت من أصول العلوم والمعارف صالحة لأن تكون بيانا لكل شيء على وجه العموم الحقيقي إن سلك في بيانها طريق التفصيل واستنير فيها بما شرح الرسول صلىاللهعليهوسلم وما قفّاه به أصحابه وعلماء أمّته ، ثم ما يعود إلى الترغيب والترهيب من وصف ما أعدّ للطائعين وما أعدّ للمعرضين ، ووصف عالم الغيب والحياة الآخرة. ففي كل ذلك بيان لكل شيء يقصد بيانه للتبصّر في هذا الغرض الجليل ، فيؤول ذلك العموم العرفي بصريحه إلى عموم حقيقي بضمنه ولوازمه. وهذا من أبدع الإعجاز.
وخصّ بالذّكر الهدى والرحمة والبشرى لأهميتها ؛ فالهدى ما يرجع من التّبيان إلى تقويم العقائد والأفهام والإنقاذ من الضلال. والرحمة ما يرجع منه إلى سعادة الحياتين الدنيا والأخرى ، والبشرى ما فيه من الوعد بالحسنيين الدنيوية والأخروية.
وكل ذلك للمسلمين دون غيرهم لأن غيرهم لما أعرضوا عنه حرموا أنفسهم الانتفاع بخواصّه كلها.
فاللام في (لِكُلِّ شَيْءٍ) متعلق بالتبيان ، وهي لام التقوية ، لأن «كل شيء» في معنى المفعول به ل (تِبْياناً). واللام في (لِلْمُسْلِمِينَ) لام العلّة يتنازع تعلّقها «تبيان وهدى ورحمة وبشرى» وهذا هو الوجه.
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠))
لما جاء أن هذا القرآن تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين حسن التخلّص إلى تبيان أصول الهدى في التشريع للدين الإسلامي العائدة إلى الأمر والنهي ، إذ الشريعة كلها أمر ونهي ، والتّقوى منحصرة في الامتثال والاجتناب ، فهذه الآية استئناف لبيان كون الكتاب تبيانا لكل شيء ، فهي جامعة أصول التّشريع.
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد للاهتمام بشأن ما حوته. وتصديرهما باسم الجلالة للتّشريف ، وذكر (يَأْمُرُ وَيَنْهى) دون أن يقال : اعدلوا واجتنبوا الفحشاء ، للتّشويق.