لتلبيس آخر مما يلبّسون به على عامّتهم ، وذلك أن يقولوا : إن محمدا يتلقّى القرآن من رجل من أهل مكة. قيل : قائل ذلك الوليد بن المغيرة وغيره ، قال عنه تعالى : (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [سورة المدثر : ٢٤] ، أي لا يلقّنه ملك بل يعلّمه إنسان ، وقد عيّنوه بما دلّ عليه قوله تعالى (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ).
وافتتاح الجملة بالتأكيد بلام القسم و (قد) يشير إلى أن خاصة المشركين كانوا يقولون ذلك لعامّتهم ولا يجهرون به بين المسلمين لأنه باطل مكشوف ، وأن الله أطلع المسلمين على ذلك. فقد كان في مكّة غلام روميّ كان مولى لعامر بن الحضرمي اسمه جبر كان يصنع السيوف بمكّة ويقرأ من الإنجيل ما يقرأ أمثاله من عامّة النصارى من دعوات الصلوات ، فاتّخذ زعماء المشركين من ذلك تمويها على العامة ، فإن معظم أهل مكّة كانوا أمّيين فكانوا يحسبون من يتلو كلمات يحفظها ولو محرّفة ، أو يكتب حروفا يتعلّمها ، يحسبونه على علم ، وكان النبي صلىاللهعليهوسلم لما جانبه قومه وقاطعوه يجلس إلى هذا الغلام ، وكان هذا الغلام قد أظهر الإسلام فقالت قريش. هذا يعلّم محمدا ما يقوله.
وقيل : كان غلام رومي اسمه بلعام ، كان عبدا بمكة لرجل من قريش ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقف عليه يدعوه إلى الإسلام ، فقالوا : إن محمدا يتعلّم منه ، وكان هذا العبد يقول: إنّما يقف عليّ يعلّمني الإسلام.
وظاهر الإفراد في (إِلَيْهِ) أن المقصود رجل واحد. وقد قيل : المراد عبدان هما جبر ويسار كانا قنّين ، فيكون المراد ب (بَشَرٌ) الجنس ، وبإفراد ضميره جريانه على أفراد معاده.
وقد كشف القرآن هذا اللّبس هنا بأوضح كشف إذ قال قولا فصلا دون طول جدال (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ، أي كيف يعلّمه وهو أعجميّ لا يكاد يبين ، وهذا القرآن فصيح عربي معجز.
والجملة جواب عن كلامهم ، فهي مستأنفة استئنافا بيانيا لأن قولهم : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) يتضمّن أنه ليس منزّلا من عند الله فيسأل سائل : ما ذا جواب قولهم؟ فيقال : (لِسانُ الَّذِي ...) إلخ ، وهذا النّظم نظير نظم قوله تعالى : (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [سورة الأنعام : ١٢٤].
وألحد : مثل لحد ، أي مال عن القويم. فهو مما جاء من الأفعال مهموز بمعنى