كالتأكيد لوصف الحنيف بنفي ضدّه مثل (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [سورة طه : ٧٩].
ونفي كونه من المشركين بحرف (لَمْ) لأن (لَمْ) تقلب زمن الفعل المضارع إلى الماضي ، فتفيد انتفاء مادة الفعل في الزمن الماضي ، وتفيد تجدّد ذلك المنفي الذي هو من خصائص الفعل المضارع فيحصل معنيان : انتفاء مدلول الفعل بمادته ، وتجدّد الانتفاء بصيغته ، فيفيد أن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ لم يتلبّس بالإشراك قط ، فإن إبراهيم ـ عليهالسلام ـ لم يشرك بالله منذ صار مميّزا ، وأنه لا يتلبّس بالإشراك أبدا.
و (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ) خبر رابع عن (كانَ). وهو مدح لإبراهيم ـ عليهالسلام ـ وتعريض بذرّيّته الذين أشركوا وكفروا نعمة الله مقابل قوله : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) [سورة النحل : ١١٢]. وتقدم قريبا الكلام على أنعم الله.
وجملة (اجْتَباهُ) مستأنفة استئنافا بيانيا ، لأن الثّناء المتقدّم يثير سؤال سائل عن سبب فوز إبراهيم بهذه المحامد ، فيجاب بأن الله اجتباه ، كقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [سورة الأنعام : ١٢٤].
والاجتباء : الاختيار ، وهو افتعال من جبى إذا جمع. وتقدم في قوله تعالى واجتباهم (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) في سورة الأنعام [٨٧].
والهداية إلى الصراط المستقيم : الهداية إلى التوحيد ودين الحنيفية.
وضمير (آتَيْناهُ) التفات من الغيبة إلى التكلّم تفنّنا في الأسلوب لتوالي ثلاثة ضمائر غيبة.
والحسنة في الدنيا : كل ما فيه راحة العيش من اطمئنان القلب بالدين ، والصحة ، والسلامة ، وطول العمر ، وسعة الرزق الكافي ، وحسن الذكر بين الناس. وقد تقدّم في قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [سورة البقرة : ٢٠١].
والصلاح : تمام الاستقامة في دين الحقّ. واختير هذا الوصف إشارة إلى أن الله أكرمه بإجابة دعوته ، إذ حكى عنه أنه قال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [سورة الشعراء : ٨٣].
(ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣))