جيء بفعلها ، تنبيها على أن المقصود تقييد الإذن فيها بأن تكون بالتي هي أحسن ، كما قال : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة العنكبوت : ٤٦].
والمجادلة : الاحتجاج لتصويب رأي وإبطال ما يخالفه أو عمل كذلك. ولما كان ما لقيه النبي صلىاللهعليهوسلم من أذى المشركين قد يبعثه على الغلظة عليهم في المجادلة أمره الله بأن يجادلهم بالتي هي أحسن. وتقدمت قريبا عند قوله : (تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [سورة النحل : ١١١]. وتقدمت من قبل عند قوله : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) في سورة النساء [١٠٧]. والمعنى : إذا ألجأتك الدعوة إلى محاجّة المشركين فحاججهم بالتي هي أحسن.
والمفضل عليه المحاجّة الصادرة منهم ، فإن المجادلة تقتضي صدور الفعل من الجانبين ، فعلم أن المأمور به أن تكون المحاجّة الصادرة منه أشدّ حسنا من المحاجّة الصادرة منهم ، كقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة المؤمنون : ٩٦].
ولما كانت المجادلة لا تكون إلا مع المعارضين صرّح في المجادلة بضمير جمع الغائبين المراد منه المشركون ، فإن المشركين متفاوتون في كيفيات محاجتهم ، فمنهم من يحاجّ بلين ، مثل ما في الحديث : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ القرآن على الوليد بن المغيرة ثم قال له : «هل ترى بما أقول بأسا» قال : لا والدماء. وقرأ النبي صلىاللهعليهوسلم القرآن على عبد الله بن أبيّ ابن سلول في مجلس قومه ، فقال عبد الله بن أبي : أيها المرء إن كان ما تقول حقا فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدّثه إيّاه ومن لم يأتك فلا تغته ولا تأته في مجلسه بما يكره منه.
وتصدّي المشركين لمجادلة النبي صلىاللهعليهوسلم تكرّر غير مرّة. ومن ذلك ما روي عن ابن عباس : أنه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [سورة الأنبياء : ٩٨] الآية ، قال عبد الله الزّبعرى : لأخصمنّ محمدا ، فجاءه فقال : يا محمد قد عبد عيسى ، وعبدت الملائكة فهل هم حصب لجهنّم؟ فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «اقرأ ما بعد (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [سورة الأنبياء : ١٠١]. أخرجه ابن المنذر وابن مردويه والطبراني ، وأبو داود في كتاب «الناسخ والمنسوخ».
وقيدت الموعظة بالحسنة ولم تقيد الحكمة بمثل ذلك لأن الموعظة لما كان المقصود منها غالبا ردع نفس الموعوظ عن أعماله السيئة أو عن توقّع ذلك منه ، كانت مظنّة لصدور غلظة من الواعظ ولحصول انكسار في نفس الموعوظ ، أرشد الله رسوله أن يتوخّى في