وقد أحاطت جملة (أَنْ أَنْذِرُوا) إلى قوله تعالى : (فَاتَّقُونِ) بالشريعة كلها ، لأن جملة (أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) تنبيه على ما يرجع من الشريعة إلى إصلاح الاعتقاد وهو الأمر بكمال القوة العقلية.
وجملة (فَاتَّقُونِ) تنبيه على الاجتناب والامتثال اللذين هما منتهى كمال القوة العملية.
(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣))
استئناف بياني ناشئ عن قوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [سورة النحل : ١] لأنهم إذا سمعوا ذلك ترقّبوا دليل تنزيه الله عن أن يكون له شركاء. فابتدئ بالدلالة على اختصاصه بالخلق والتقدير ؛ وذلك دليل على أن ما يخلق لا يوصف بالإلهية كما أنبأ عنه التّفريع عقب هذه الأدلّة بقوله الآتي : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [سورة النحل : ١٧].
وأعقب قوله : (سُبْحانَهُ) بقوله : (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تحقيقا لنتيجة الدليل ، كما يذكر المطلوب قبل ذكر القياس في صناعة المنطق ثم يذكر ذلك المطلوب عقب القياس في صورة النتيجة تحقيقا للوحدانية ، لأن الضلال فيها هو أصل انتقاض عقائد أهل الشرك ، ولأن إشراكهم هو الذي حداهم إلى إنكار نبوءة من جاء ينهاهم عن الشرك فلا جرم كان الاعتناء بإثبات الوحدانية وإبطال الشرك مقدما على إثبات صدق الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ المبدأ به في أول السورة بقوله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) سورة النحل : ٢].
وعددت دلائل من الخلق كلها متضمنة نعما جمّة على الناس إدماجا للامتنان بنعم الله عليهم وتعريضا بأن المنعم عليهم الذين عبدوا غيره قد كفروا نعمته عليهم ؛ إذ شكروا ما لم ينعم عليهم ونسوا من انفرد بالإنعام ، وذلك أعظم الكفران ، كما دلّ على ذلك عطف (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [سورة إبراهيم : ٣٤] على جملة (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [سورة النحل : ١٧].
والاستدلال بخلق السماوات والأرض أكبر من سائر الأدلّة وأجمع لأنها محوية لهما ، ولأنهما من أعظم الموجودات ، فلذلك ابتدئ بهما ، لكن ما فيه من إجمال المحويات اقتضى أن يعقّب بالاستدلال بأصناف الخلق والمخلوقات فثنّي بخلق الإنسان