تلوين الأغراض وتعقيب بعضها ببعض أضدادها استقصاء لأصناف الهدى ومختلف أساليبه ونفع مختلف الناس.
ولما كان ما سبق من حكاية أقوال المشركين تنبئ عن ضلال اعتقاد نقل الكلام إلى أمر المؤمنين بأن يقولوا أقوالا تعرب عن حسن النية وعن نفوس زكية. وأوتوا في ذلك كلمة جامعة وهي (يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
و (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) صفة لمحذوف يدل عليه فعل (يَقُولُوا). تقديره : بالتي هي أحسن. وليس المراد مقالة واحدة.
واسم التفضيل مستعمل في قوة الحسن. ونظيره قوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ، أي بالمجادلات التي هي بالغة الغاية في الحسن ، فإن المجادلة لا تكون بكلمة واحدة.
فهذه الآية شديدة الاتصال بالتي قبلها وليست بحاجة إلى تطلب سبب لنزولها. وهذا تأديب عظيم في مراقبة اللسان وما يصدر منه. وفي الحديث الصحيح عن معاذ بن جبل : أن النبي صلىاللهعليهوسلم أمره بأعمال تدخله الجنة ثم قال له : «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه وقال : كفّ عليك هذا. قال : قلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال : ثكلتك أمك وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم ، أو قال على مناخرهم ، إلا حصائد ألسنتهم».
والمقصد الأهم من هذا التأديب تأديب الأمة في معاملة بعضهم بعضا بحسن المعاملة وإلانة القول ، لأن القول ينم عن المقاصد ، بقرينة قوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ). ثم تأديبهم في مجادلة المشركين اجتنابا لما تثيره المشادة والغلظة من ازدياد مكابرة المشركين وتصلبهم فذلك من نزع الشيطان بينهم وبين عدوهم ، قال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصّلت : ٣٤]. والمسلمون في مكة يومئذ طائفة قليلة وقد صرف الله عنهم ضر أعدائهم بتصاريف من لطفه ليكونوا آمنين ، فأمرهم أن لا يكونوا سببا في إفساد تلك الحالة.
والمراد بقوله : (لِعِبادِي) المؤمنون كما هو المعروف من اصطلاح القرآن في هذا العنوان. وروي أن قول التي هي أحسن أن يقولوا للمشركين : يهديكم الله ، يرحمكم الله ، أي بالإيمان. وعن الكلبي : كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالقول والفعل ،