ما أعده الله فيه من الصفات القابلة لذلك ، كما قال الله تعالى عنهم (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته في سورة الأنعام [١٢٤].
وكان الحكم في هذه المقدمة على عموم الموجودات لتكون بمنزلة الكلية التي يؤخذ منها كل حكم لجزئياتها ، لأن المقصود بالإبطال من أقوال المشركين جامع لصور كثيرة من أحوال الموجودات من البشر والملائكة وأحوالهم ؛ لأن بعض المشركين أحالوا إرسال رسول من البشر ، وبعضهم أحالوا إرسال رسول ليس من عظمائهم ، وبعضهم أحالوا إرسال من لا يأتي بمثل ما جاء به موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ. وذلك يثير أحوالا جمة من العصور والرجال والأمم أحياء وأمواتا. فلا جرم كان للتعميم موقع عظيم في قوله : (بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، وهو أيضا كالمقدمة لجملة (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ) النبيئين على بعض ، مشيرا إلى أن تفاضل الأنبياء ناشئ على ما أودعه الله فيهم من موجبات التفاضل. وهذا إيجاز تضمن إثبات النبوءة وتقررها فيما مضى ما لا قبل لهم بإنكاره ، وتعدّد الأنبياء مما يجعل محمدا صلىاللهعليهوسلم ليس بدعا من الرسل ، وإثبات التفاضل بين الأفراد من البشر ، فمنهم رسول ومنهم مرسل إليهم ، وإثبات التفاضل بين أفراد الصنف الفاضل. وتقرر ذلك فيما مضى تقررا لا يستطيع إنكاره إلا مكابر بالتفاضل حتى بين الأفضلين سنة إلهية مقررة لا نكران لها. فعلم أن طعنهم في نبوءة محمد صلىاللهعليهوسلم طعن مكابرة وحسد. كما قال تعالى في شأن اليهود (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) في سورة النساء [٥٤].
وتخصيص داود ـ عليهالسلام ـ بالذكر عقب هذه القضية العامة وجهه صاحب «الكشاف» ومن تبعه بأن فائدة التلميح إلى أن محمدا صلىاللهعليهوسلم أفضل الأنبياء وأمته أفضل الأمم لأن في الزبور أن الأرض يرثها عباد الله الصالحون. وهذا حسن. وأنا أرى أن يكون وجه هذا التخصيص الإيماء إلى أن كثيرا من الأحوال المرموقة في نظر الجاهلين وقاصري الأنظار بنظر الغضاضة هي أحوال لا تعوق أصحابها عن الصعود في مدارج الكمال التي اصطفاها الله لها ، وأن التفضيل بالنبوءة والرسالة لا ينشأ عن عظمة سابقة ؛ فإن داود ـ عليهالسلام ـ كان راعيا من رعاة الغنم في بني إسرائيل ، وكان ذا قوة في الرمي بالحجر ، فأمر الله شاول ملك بني إسرائيل أن يختار داود لمحاربة جالوت الكنعاني ، فلما قتل داود جالوت آتاه الله النبوءة وصيره ملكا لإسرائيل ، فهو النبي الذي تجلى فيه اصطفاء الله تعالى لمن لم يكن ذا عظمة وسيادة.