(أفعل) ليتأتى ذكر السبيل ، لما في الضلال عن السبيل من تمثيل حال العمى وإيضاحه ، لأن ضلال فاقد البصر عن الطريق في حال السير أشد وقعا في الأضرار منه وهو قابع بمكانه ، فعدل عن اللفظ الوجيز إلى التركيب المطنب لما في الإطناب من تمثيل الحال وإيضاحه وإفظاعه وهو إطناب بديع. وقد أفيد بذلك أن عماه في الدارين عمى ضلال عن السبيل الموصل. ومعنى المفاضلة راجع إلى مفاضلة إحدى حالتيه على الأخرى في الضلال وأثره لا إلى حال غيره. فالمعنى : وأضل سبيلا منه في الدنيا.
ووجه كون ضلاله في الآخرة أشد أن ضلاله في الدنيا كان في مكنته أن ينجو منه بطلب ما يرشده إلى السبيل الموصل من هدي الرسول والقرآن مع كونه خليا عن لحاق الألم به ، وأما ضلاله في الآخرة فهو ضلال لا خلاص منه وهو مقارن للعذاب الدائم ، فلا جرم كان ضلاله في الآخرة أدخل في حقيقة الضلال وماهيته.
(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣))
حكاية فن من أفانين ضلالهم وعماهم في الدنيا ، فالجملة عطف على جملة (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) [الإسراء : ٧٢] ، وهو انتقال من وصف حالهم وإبطال مقالهم في تكذيب النبي صلىاللهعليهوسلم إلى ذكر حال آخر من حال معارضتهم وإعراضهم ، وهي حال طمعهم في أن يستنزلوا النبي صلىاللهعليهوسلم لأن يقول قولا فيه حسن ذكر لآلهتهم ليتنازلوا إلى مصالحته وموافقته إذا وافقهم في بعض ما سألوه.
وضمائر الغيبة مراد منها كفار قريش ، أي متولو تدبير أمورهم.
وغيّر الأسلوب من خطابهم في آيات (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) [الإسراء : ٦٦] إلى الإقبال على خطاب النبي صلىاللهعليهوسلم لتغير المقام من مقام استدلال إلى مقام امتنان.
والفتن والفتون : معاملة يلحق منها ضرّ واضطراب النفس في أنواع من المعاملة يعسر دفعها ، من تغلب على القوة وعلى الفكر ، وتقدم في قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) في سورة البقرة [١٩١].
وعدي (لَيَفْتِنُونَكَ) بحرف (عن) لتضمينه معنى فعل كان الفتن لأجله ، وهو ما فيه