محمد صلىاللهعليهوسلم فيما جاء به من القرآن بعد أن لجوا في الكفر وتفننوا في التكذيب ، فلا جرم ختم ذلك بتطمين النبي بأن الله مطلع على ذنوب القوم. وهو تعريض بأنه مجازيهم بذنوبهم بما يناسب فظاعتها ، ولذلك جاء بفعل (كَفى) وبوصفي (خَبِيراً بَصِيراً) المكنى بذكرهما عن عدم إفلات شيء من ذنوبهم المرئية والمعلومة من ضمائرهم أعني أعمالهم ونواياهم.
وقدم ما هو متعلق بالضمائر والنوايا لأن العقائد أصل الأعمال في الفساد والصلاح. وفي الحديث : «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
وفي ذكر فعل (كفى) إيماء إلى أن النبي غير محتاج إلى من ينتصر له غير ربه فهو كافيه وحسبه ، قال : (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة : ١٣٧] ؛ أو إلى أنه في غنية عن الهم في شأنهم كقوله لنوح : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [هود : ٤٦] فهذا إما تسلية له عن أذاهم وإما صرف له عن التوجع لهم.
وفي خطاب النبي بذلك تعريض بالوعيد لسامعيه من الكفار.
[١٨ ، ١٩] (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩))
هذا بيان لجملة (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي) [الإسراء : ١٥] وهو راجع أيضا إلى جملة (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣] تدريجا في التبيان للناس بأن أعمالهم من كسبهم واختيارهم ، فابتدءوا بأن الله قد ألزمهم تبعة أعمالهم بقوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ) ثم وكل أمرهم إليهم ، وأن المسيء لا يضر بإساءته غيره ولا يحملها عنه غيره فقال : (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) الآية [الإسراء : ١٥]. ثم أعذر إليهم بأنه لا يأخذهم على غرة ولا يأخذهم إلا بسوء أعمالهم بقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) إلى قوله : (خَبِيراً بَصِيراً) [الإسراء : ١٥ ـ ١٧]. ثم كشف لهم مقاصدهم من أعمالهم ، وأنهم قسمان :
قسم لم يرد إلا الدنيا فكانت أعماله لمرضاة شهواته معتقدا أن الدنيا هي قصارى مراتع النفوس لا حظ لها إلا ما حصل لها في مدة الحياة لأنه لا يؤمن بالبعث فيقصر عمله على ذلك.