التصرف في ذلك المعنى بتمثيل الذي يشح بالمال بالذي غلّت يده إلى عنقه ، أي شدت بالغلّ ، وهو القيد من السير يشد به يد الأسير ، فإذا غلت اليد إلى العنق تعذر التصرف بها فتعطل الانتفاع بها فصار مصدر البذل معطلا فيه ، وبضده مثّل المسرف بباسط يده غاية البسط ونهايته وهو المفاد بقوله : (كُلَّ الْبَسْطِ) أي البسط كله الذي لا بسط بعده ، وهو معنى النهاية. وقد تقدم من هذا المعنى عند قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) إلى قوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) في سورة العقود [المائدة : ٦٤]. هذا قالب البلاغة المصوغة في تلك الحكمة.
وقوله : (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) جواب لكلا النهيين على التوزيع بطريقة النشر المرتب ، فالملوم يرجع إلى النهي عن الشح ، والمحسور يرجع إلى النهي عن التبذير ، فإن الشحيح ملوم مذموم. وقد قيل :
إن البخيل ملوم حيثما كانا وقال زهير :
ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله |
|
على قومه يستغن عنه ويذمم |
والمحسور : المنهوك القوى. يقال : بعير حسير ، إذا أتعبه السير فلم تبق له قوة ، ومنه قوله تعالى : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) [الملك : ٤] ، والمعنى : غير قادر على إقامة شئونك. والخطاب لغير معين. وقد مضى الكلام على «تقعد» آنفا.
(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠))
موقع هذه الجملة موقع اعتراض بالتعليل لما تقدم من الأمر بإيتاء ذي القربى والمساكين ، والنهي عن التبذير ، وعن الإمساك المفيد الأمر بالقصد ، بأن هذا واجب الناس في أموالهم وواجبهم نحو قرابتهم وضعفاء عشائرهم ، فعليهم أن يمتثلوا ما أمرهم الله من ذلك. وليس الشح بمبق مال الشحيح لنفسه ، ولا التبذير بمغن من يبذر فيهم المال فإن الله قدر لكل نفس رزقها.
فيجوز أن يكون الكلام جاريا على سنن الخطاب السابق لغير معين. ويجوز أن يكون قد حول الكلام إلى خطاب النبي صلىاللهعليهوسلم فوجّه بالخطاب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم لأنه الأولى بعلم هذه الحقائق العالية ، وإن كانت أمته مقصودة بالخطاب تبعا له ، فتكون هذه الوصايا مخللة بالإقبال على خطاب النبي صلىاللهعليهوسلم.