وتنكير (قَوْماً) يؤذن بأنهم أمّة غير معروفة ولا مألوفة حالة عقائدهم وسيرتهم.
فجملة (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) استئناف بياني لما أشعر به تنكير (قَوْماً) من إثارة سؤال عن حالهم وعما لاقاه بهم ذو القرنين.
وقد دل قوله : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) على أنهم مستحقون للعذاب ، فدلّ على أن أحوالهم كانت في فساد من كفر وفساد عمل.
وإسناد القول إلى ضمير الجلالة يحتمل أنه قول إلهام ، أي ألقينا في نفسه ترددا بين أن يبادر استيصالهم وأن يمهلهم ويدعوهم إلى الإيمان وحسن العمل ، ويكون قوله (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) ، أي قال في نفسه معتمدا على حالة وسط بين صورتي التردد.
وقيل : إن ذا القرنين كان نبيئا يوحى عليه فيكون القول كلاما موحى به إليه يخيّره فيه بين الأمرين ، مثل التخيير الذي في قوله تعالى : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤] ، ويكون قوله : (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) جوابا منه إلى ربّه. وقد أراد الله إظهار سداد اجتهاده كقوله : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) [الأنبياء : ٧٩].
و (حُسْناً) مصدر. وعدل عن (أن تحسن إليهم) إلى (أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) مبالغة في الإحسان إليهم حتى جعل كأنه اتّخذ فيهم نفس الحسن ، مثل قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة : ٨٣]. وفي هذه المبالغة تلقين لاختيار أحد الأمرين المخير بينهما.
والظلم : الشرك ، بقرينة قسيمه في قوله (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً).
واجتلاب حرف الاستقبال في قوله : (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) يشير إلى أنه سيدعوه إلى الإيمان فإن أصرّ على الكفر يعذبه. وقد صرح بهذا المفهوم في قوله (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي آمن بعد كفره. ولا يجوز أن يكون المراد من هو مؤمن الآن ، لأن التخيير بين تعذيبهم واتخاذ الإمهال معهم يمنع أن يكون فيهم مؤمنون حين التخيير.
والمعنى : فسوف نعذبه عذاب الدنيا ولذلك أسنده إلى ضميره ثم قال : (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) وذلك عذاب الآخرة.
وقرأ الجمهور (جَزاءً الْحُسْنى) بإضافة (جَزاءً) إلى (الْحُسْنى) على الإضافة البيانية. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، ويعقوب ، وخلف (جَزاءً الْحُسْنى) بنصب (جَزاءً) منونا على أنه تمييز لنسبة استحقاقه الحسنى ، أو مصدر مؤكد لمضمون