و (من) استفهامية ، وهو إنكار ، أي لا أظلم ممن افترى. والمعنى : أنه أظلم من غيره. وليس المراد المساواة بينه وبين غيره ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة : ١١٤].
والمعنى : أن هؤلاء افتروا على الله كذبا ، وذلك أنهم أشركوا معه غيره في الإلهية فقد كذبوا عليه في ذلك إذ أثبتوا له صفة مخالفة للواقع.
وافتراء الكذب تقدم في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة المائدة [١٠٣].
ثم إن كان الكلام من مبدئه خطابا لقومهم أعلنوا به إيمانهم بينهم كما تقدم كانت الإشارة في قولهم : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا) على ظاهرها ، وكان ارتقاء في التعريض لهم بالموعظة ؛ وإن كان الكلام من مبدئه دائرا بينهم في خاصتهم كانت الإشارة إلى حاضر في الذهن كقوله تعالى : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ) [الأنعام : ٨٩] أي مشركو مكة.
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦))
يتعين أن يكون هذا من كلام بعضهم لبعض على سبيل النصح والمشورة الصائبة. وليس يلزم في حكاية أقوال القائلين أن تكون المحكيات كلها صادرة في وقت واحد ، فيجوز أن يكونوا قال بعضهم لبعض ذلك بعد اليأس من ارعواء قومهم عن فتنتهم في مقام آخر. ويجوز أن يكون ذلك في نفس المقام الذي خاطبوا فيه قومهم بأن غيروا الخطاب من مواجهة قومهم إلى مواجهة بعضهم بعضا ، وهو ضرب من الالتفات. فعلى الوجه الأول يكون فعل (اعْتَزَلْتُمُوهُمْ) مستعملا في إرادة الفعل مثل (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] ، وعلى الوجه الثاني يكون الاعتزال قد حصل فيما بين مقام خطابهم قومهم وبين مخاطبة بعضهم بعضا. وعلى الاحتمالين فالقرآن اقتصر في حكاية أقوالهم على المقصد الأهم منها في الدلالة على ثباتهم دون ما سوى ذلك ممّا لا أثر له في الغرض وإنما هو مجرد قصص.
و «إذ» للظرفية المجازية بمعنى التعليل.
والاعتزال : التباعد والانفراد عن مخالطة الشيء ، فمعنى اعتزال القوم ترك