لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨))
جرى القرآن على عادته في تعقيب الترهيب بالترغيب والعكس ، فلما رماهم بقوارع التهديد والوعيد عطف على ذلك التعريض بالتذكير بالمغفرة لعلهم يتفكرون في مرضاته ، ثم التذكير بأنه يشمل الخلق برحمته في حين الوعيد فيؤخر ما توعدهم به إلى حد معلوم إمهالا للناس لعلهم يرجعون عن ضلالهم ويتدبرون فيما هم فيه من نعم الله تعالى فلعلهم يشكرون ، موجها الخطاب إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مفتتحا باستحضار الجلالة بعنوان الربوبية للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إيماء إلى أن مضمون الخبر تكريم له ، كقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الأنفال : ٣٣].
والوجه في نظم الآية أن يكون (الْغَفُورُ) نعتا للمبتدإ ويكون (ذُو الرَّحْمَةِ) هو الخبر لأنه المناسب للمقام ولما بعده من جملة (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ) ، فيكون ذكر (الْغَفُورُ) إدماجا في خلال المقصود. فخص بالذكر من أسماء الله تعالى اسم (الْغَفُورُ) تعريضا بالترغيب في الاستغفار.
والغفور : اسم يتضمن مبالغة الغفران لأنه تعالى واسع المغفرة إذ يغفر لمن لا يحصون ويغفر ذنوبا لا تحصى إن جاءه عبده تائبا مقلعا منكسرا ، على أن إمهاله الكفار والعصاة هو أيضا من أثر المغفرة إذ هو مغفرة مؤقتة.
وأما قوله : (ذُو الرَّحْمَةِ) فهو المقصود تمهيدا لجملة (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا) ، فلذلك كانت تلك الجملة بيانا لجملة (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) باعتبار الغفور الخبر وهو الوصف الثاني.
والمعنى : أنهم فيما كسبوه من الشرك والعناد أحرياء بتعجيل العقوبة لكن الله يمهلهم إلى أمد معلوم مقدر. وفي ذلك التأجيل رحمة بالناس بتمكين بعضهم من مهلة التدارك وإعادة النظر ، وفيه استبقاؤهم على حالهم زمنا.
فوصف (ذُو الرَّحْمَةِ) يساوي وصف (الرحيم) لأن (ذو) تقتضي رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه.
وإنما عدل عن وصف (الرحيم) إلى (ذُو الرَّحْمَةِ) للتنبيه على أنه خبر لا نعت تنبيها بطريقة تغيير الأسلوب ، فإن اسم (الرحيم) صار شبيها بالأسماء الجامدة ، لأنه صيغ بصيغة الصفة المشبهة فبعد عن ملاحظة الاشتقاق فيه واقترب من صنف الصفة الذاتية.