والحاصل أنّ موسى تجنّب التصدي للمجادلة والمناقضة في غير ما جاء لأجله لأنّه لم يبعث بذلك. وفي هذا الإعراض فوائد كثيرة وهو عالم بمجمل أحوال القرون الأولى وغير عالم بتفاصيل أحوالهم وأحوال أشخاصهم.
وإضافة (عِلْمُها) من إضافة المصدر إلى مفعوله. وضمير (عِلْمُها) عائد إلى (الْقُرُونِ الْأُولى) لأنّ لفظ الجمع يجوز أن يؤنث ضميره.
وقوله (فِي كِتابٍ) يحتمل أن يكون الكتاب مجازا في تفصيل العلم تشبيها له بالأمور المكتوبة ، وأن يكون كناية عن تحقيق العلم لأنّ الأشياء المكتوبة تكون محققة كقول الحارث بن حلّزة :
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
ويؤكد هذا المعنى قوله (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى).
والضلال : الخطأ في العلم ، شبّه بخطإ الطريق. والنسيان : عدم تذكر الأمر المعلوم في ذهن العالم.
[٥٣ ـ ٥٤] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤))
هذه جمل ثلاث معترضة في أثناء قصة موسى.
فالجملة الأولى منها مستأنفة ابتدائية على عادة القرآن من تفنّن الأغراض لتجديد نشاط الأذهان. ولا يحتمل أن تكون من كلام موسى إذ لا يناسب ذلك تفريع قوله : (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً). فقوله (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) مهادا خبر لمبتدإ محذوف ، أي هو الذي جعل لكم الأرض مهادا ، والضمير عائد إلى الربّ المفهوم من (رَبِّي) [طه:٥٢] ، أي هو ربّ موسى.
وتعريف جزأي الجملة يفيد الحصر ، أي الجاعل الأرض مهادا فكيف تعبدون غيره. وهذا قصر حقيقي غير مقصود به الرد على المشركين ولكنّه تذكير بالنّعمة وتعريض بأن غيره ليس حقيقا بالإلهية.