بين القوم وربما اقتتلوا فرأى من المصلحة أن يظهر الرضى عن فعلهم ليهدأ الجمهور ويصبر المؤمنون اقتداء بهارون ، ورأى في سلوك هذه السياسة تحقيقا لقول موسى له (وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) في سورة الأعراف [١٤٢]. وهو الذي أشار إليه هنا بقوله (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ، فهو من جملة حكاية قول موسى الذي قدره هارون في ظنه.
وهذا اجتهاد منه في سياسة الأمة إذ تعارضت عنده مصلحتان مصلحة حفظ العقيدة ومصلحة حفظ الجامعة من الهرج. وفي أثنائها حفظ الأنفس والأموال والأخوة بين الأمّة فرجّح الثانية ، وإنما رجحها لأنه رآها أدوم فإن مصلحة حفظ العقيدة يستدرك فواتها الوقتيّ برجوع موسى وإبطاله عبادة العجل حيث غيوا عكوفهم على العجل برجوع موسى ، بخلاف مصلحة حفظ الأنفس والأموال واجتماع الكلمة إذا انثلمت عسر تداركها.
وتضمن هذا قوله (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ، وكان اجتهاده ذلك مرجوحا لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه ، لأنّ مصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع ، كما بيناه في كتاب «أصول نظام الاجتماع الإسلامي». ولذلك لم يكن موسى خافيا عليه أن هارون كان من واجبه أن يتركهم وضلالهم وأن يلتحق بأخيه مع علمه بما يفضي إلى ذلك من الاختلاف بينهم ، فإن حرمة الشريعة بحفظ أصولها وعدم التساهل فيها ، وبحرمة الشريعة يبقى نفوذها في الأمة والعمل بها كما بينته في كتاب «مقاصد الشريعة».
وفي قوله تعالى : (بَيْنَ بَنِي) جناس ، وطرد وعكس.
وهذا بعض ما اعتذر به هارون ، وحكي عنه في سورة الأعراف [١٥٠] أنه اعتذر بقوله (إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي).
[٩٥ ـ ٩٦] (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦))
التفت موسى بتوجيه الخطاب إلى السامريّ الذي كان سببا في إضلال القوم ، فالجملة ناشئة عن قول القوم (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً) [طه : ٨٨] إلخ ، فهي ابتداء خطاب. ولعل موسى لم يغلظ له القول كما أغلظ لهارون لأنه كان جاهلا بالدّين فلم يكن في ضلاله عجب. ولعل هذا يؤيد ما قيل : إن السامريّ لم يكن من بني إسرائيل ولكنه كان من القبط أو من كرمان فاندسّ في بني إسرائيل. ولما كان موسى