مبعوثا لبني إسرائيل خاصة ولفرعون وملئه لأجل إطلاق بني إسرائيل ، كان اتّباع غير الإسرائيليين لشريعة موسى أمرا غير واجب على غير الإسرائيليين ولكنه مرغّب فيه لما فيه من الاهتداء ، فلذلك لم يعنفه موسى لأنّ الأجدر بالتعنيف هم القوم الذين عاهدوا الله على الشريعة.
ومعنى (فَما خَطْبُكَ) ما طلبك ، أي ما ذا تخطب ، أي تطلب ، فهو مصدر. قال ابن عطية : «وهي كلمة أكثر ما تستعمل في المكاره ، لأن الخطب هو الشأن المكروه. كقوله تعالى : (فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) [الذاريات : ٣١] ، فالمعنى : ما هي مصيبتك التي أصبت بها القوم وما غرضك مما فعلت.
وقوله (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) إلى قوله (فَنَبَذْتُها) إن حملت كلمات (بصرت بما لم يبصروا به. وقبضت قبضة ، وأثر ، ونبذتها) على حقائق مدلولاتها كما ذهب إليه جمهور المفسرين كان المعنى أبصرت ما لم يبصروه ، أي نظرت ما لم ينظروه ، بناء على أن بصرت ، وأبصرت كلاهما من أفعال النظر بالعين ، إلا أن بصر بالشيء حقيقته صار بصيرا به أو بصيرا بسببه ، أي شديد الإبصار ، فهو أقوى من أبصرت ، لأنّه صيغ من فعل ـ بضم العين ـ الذي تشتق منه الصفات المشبهة الدالة على كون الوصف سجية ، قال تعالى: (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) في سورة القصص [١١].
ولما كان المعنى هنا جليّا عن أمر مرئيّ تعيّن حمل اللفظ على المجاز باستعارة بصر الدال على قوّة الإبصار إلى معنى العلم القويّ بعلاقة الإطلاق عن التقييد ، كما في قوله تعالى : (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق : ٢٢] ، وكما سميت المعرفة الراسخة بصيرة في قوله (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) [يوسف : ١٠٨]. وحكى في «لسان العرب» عن اللحياني : إنه لبصير بالأشياء ، أي عالم بها ، وبصرت بالشيء : علمته. وجعل منه قوله تعالى : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) ، وكذلك فسرها الأخفش في نقل «لسان العرب» وأثبته الزجاج. فالمعنى : علمت ما لم يعلموه وفطنت لما لم يفطنوا له ، كما جعله في «الكشاف» أول وجهين في معنى الآية. ولذلك طريقتان : إما جعل بصرت مجازا ، وإما جعله حقيقة.
وقرأ الجمهور (يَبْصُرُوا) بتحتية على أنه رافع لضمير الغائب. وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف ـ بفوقية ـ على أنه خطاب لموسى ومن معه.
والقبضة : ـ بفتح القاف ـ الواحدة : من القبض ، وهو غلق الراحة على شيء ، فالقبضة مصدر بمعنى المفعول ، وضد القبض : البسط.