(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧))
لم يزد موسى في عقاب السامريّ على أن خلعه من الأمّة ، إما لأنّه لم يكن من أنفسهم فلم يكن بالذي تجري عليه أحكام الشريعة ، وإما لأنّ موسى أعلم بأن السامري لا يرجى صلاحه ، فيكون ممن حقّت عليه كلمة العذاب ، مثل الذين قال الله تعالى فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ) كلمات (رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ، ٩٧] ، ويكون قد أطلع الله موسى على ذلك بوحي أو إلهام ، مثل الذي قاتل قتالا شديدا مع المسلمين ، وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أما إنه من أهل النّار» ، ومثل المنافقين الذين أعلم الله بهم محمدا صلىاللهعليهوسلم وكان النبي صلىاللهعليهوسلم أعلم حذيفة بن اليمان ببعضهم.
فقوله (فَاذْهَبْ) الأظهر أنه أمر له بالانصراف والخروج من وسط الأمّة ، ويجوز أن يكون كلمة زجر ، كقوله تعالى : (قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ) [الإسراء : ٦٣] ، وكقول الشاعر مما أنشده سيبويه في «كتابه» ولم يعزه :
فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا |
|
فاذهب فما وبك لأيام من عجب |
ويجوز أن يكون مرادا به عدم الاكتراث بحاله كقول النبهاني من شعراء «الحماسة» :
فإن كنت سيدنا سدتنا |
|
وإن كنت للخال فاذهب فخل |
أما قوله (فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) فهو إخبار بما عاقبه الله به في الدنيا والآخرة ، فجعل حظه في حياته أن يقول لا مساس ، أي سلبه الله الأنس الذي في طبع الإنسان فعوضه به هوسا ووسواسا وتوحشا ، فأصبح متباعدا عن مخالطة الناس ، عائشا وحده لا يترك أحدا يقترب منه ، فإذا لقيه إنسان قال له : لا مساس ، يخشى أن يمسه ، أي لا تمسني ولا أمسك ، أو أراد لا اقتراب مني ، فإن المس يطلق على الاقتراب كقوله (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) [هود : ٦٤] ، وهذا أنسب بصيغة المفاعلة ، أي مقاربة بيننا ، فكان يقول ذلك ، وهذه حالة فظيعة أصبح بها سخرية.
ومساس ـ بكسر الميم ـ في قراءة جميع القراء وهو مصدر ماسّه بمعنى مسه ، و (لا) نافية للجنس ، و (مِساسَ) اسمها مبني على الفتح.