وبذلك كان موقع جملة (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) بيّنا ، فالتقديم مفيد القصر ، أي لا يرجعون إلى غيرنا. ومحمل هذا التقديم بالنسبة إلى المسلمين الاهتمام ومحمله بالنسبة إلى المشركين القصر كما تقدم في قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ).
[٤١ ، ٤٢] (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢))
قد تقدم أن من أهم ما اشتملت عليه هذه السورة التنويه بالأنبياء والرسل السالفين.
وإذ كان إبراهيم عليهالسلام أبا الأنبياء وأوّل من أعلن التوحيد إعلانا باقيا ، لبنائه له هيكل التوحيد وهو الكعبة ، كان ذكر إبراهيم من أغراض السورة ، وذكر عقب قصة عيسى لمناسبة وقوع الرد على المشركين في آخر القصة ابتداء من قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [مريم : ٣٧] إلى قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) [مريم : ٤٠]. ولما كان إبراهيم قد جاء بالحنيفية وخالفها العرب بالإشراك وهم ورثة إبراهيم كان لتقديم ذكره على البقية الموقع الجليل من البلاغة.
وفي ذلك تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم على ما لقي من مشركي قومه لمشابهة حالهم بحال قوم إبراهيم.
وقد جرى سرد خبر إبراهيم عليهالسلام على أسلوب سرد قصة مريم عليهاالسلام لما في كل من الأهمية كما تقدم.
وتقدم تفسير (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) في أول قصة مريم [١٦].
و (الصِّدِّيقُ) ـ بتشديد الدال ـ صيغة مبالغة في الاتصاف ، مثل الملك الضّليل لقب امرئ القيس ، وقولهم : رجل مسيك : أي شحيح ، ومنه طعام حرّيف ، ويقال : دليل خرّيت ، إذا كان ذا حذق بالطرق الخفية في المفاوز ، مشتقا من الخرت وهو ثقب الشيء كأنه يثقب المسدودات ببصره. وتقدم في قوله تعالى : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) [يوسف : ٤٦]. وصف إبراهيم بالصدّيق لفرط صدقه في امتثال ما يكلفه الله تعالى لا يصده عن ذلك ما قد يكون عذرا للمكلف مثل مبادرته إلى محاولة ذبح ولده حين أمره الله بذلك في وحي الرؤيا ، فالصدق هنا بمعنى بلوغ نهاية الصفة في الموصوف بها ، كما في قول تأبّط شرّا :
إني لمهد من ثنائي فقاصد |
|
به لابن عم الصّدق شمس بن مالك |