وكان إدريس نبيئا ، ففي الإصحاح الخامس من سفر التكوين «وسار أخنوخ مع الله». قيل : هو أول من وضع للبشر عمارة المدن ، وقواعد العلم ، وقواعد التربية ، وأول من وضع الخط ، وعلّم الحساب بالنجوم وقواعد سير الكواكب ، وتركيب البسائط بالنّار فلذلك كان علم الكيمياء ينسب إليه ، وأوّل من علم الناس الخياطة. فكان هو مبدأ من وضع العلوم ، والحضارة ، والنظم العقليّة.
فوجه تسميته في القرآن بإدريس أنّه اشتق له اسم من الفرس على وزن مناسب للأعلام العجميّة ، فلذلك منع من الصرف مع كون حروفه من مادة عربية ، كما منع إبليس من الصرف ، وكما منع طالوت من الصرف.
وتقدّم اختلاف القراء في لفظ نبيئا عند ذكر إبراهيم.
وقوله (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال جماعة من المفسرين هو رفع مجازي. والمراد : رفع المنزلة ، لما أوتيه من العلم الذي فاق به على من سلفه. ونقل هذا عن الحسن. وقال به أبو مسلم الأصفهاني. وقال جماعة : هو رفع حقيقي إلى السماء ، وفي الإصحاح الخامس من سفر التكوين «وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأنّ الله أخذه» ، وعلى هذا فرفعه مثل رفع عيسى عليهالسلام. والأظهر أن ذلك بعد نزع روحه وروحنة جثته. ومما يذكر عنه أنّه بقي ثلاث عشرة سنة لا ينام ولا يأكل حتى تروحن ، فرفع. وأما حديث الإسراء فلا حجة فيه لهذا القول لأنه ذكر فيه عدة أنبياء غيره وجدوا في السماوات. ووقع في حديث مالك بن صعصعة عن الإسراء بالنبيء صلىاللهعليهوسلم إلى السماوات أنه وجد إدريس عليهالسلام في السماء وأنه لمّا سلّم عليه قال : مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. فأخذ منه أنّ إدريس عليهالسلام لم تكن له ولادة على النبي صلىاللهعليهوسلم لأنّه لم يقل له والابن الصالح ، ولا دليل في ذلك لأنه قد يكون قال ذلك اعتبارا بأخوّة التوحيد فرجحها على صلة النسب فكان ذلك من حكمته.
على أنّه يجوز أن يكون ذلك سهوا من الراوي فإن تلك الكلمة لم تثبت في حديث جابر بن عبد الله في «صحيح البخاري». وقد جزم البخاري في أحاديث الأنبياء بأن إدريس جد نوح أو جدّ أبيه. وذلك يدلّ على أنّه لم ير في قوله «مرحبا بالأخ الصالح» ما ينافي أن يكون أبا للنبي صلىاللهعليهوسلم.
(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ