ووقوع فعل (أَنْزَلْنا) في سياق النفي يقتضي عموم مدلوله ، لأنّ الفعل في سياق النفي بمنزلة النكرة في سياقه ، وعموم الفعل يستلزم عموم متعلقاته من مفعول ومجرور. فيعمّ نفي جميع كلّ إنزال للقرآن فيه شقاء له ، ونفي كل شقاء يتعلق بذلك الإنزال ، أي جميع أنواع الشّقاء فلا يكون إنزال القرآن سببا في شيء من الشقاء للرسول صلىاللهعليهوسلم.
وأول ما يراد منه هنا أسف النبي صلىاللهعليهوسلم من إعراض قومه عن الإيمان بالقرآن. قال تعالى: (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٦].
ويجوز أن يكون المراد : ما أرسلناك لتخيب بل لنؤيدك وتكون لك العاقبة.
وقوله (إِلَّا تَذْكِرَةً) استثناء مفرّغ من أحوال للقرآن محذوفة ، أي ما أنزلنا عليك القرآن في حال من أحوال إلا حال تذكرة فصار المعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وما أنزلناه في حال من الأحوال إلا تذكرة. ويدل لذلك تعقيبه بقوله (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ) الذي هو حال من القرآن لا محالة ، ففعل (أَنْزَلْنا) عامل في (لِتَشْقى) بواسطة حرف الجرّ ، وعامل في (تَذْكِرَةً) بواسطة صاحب الحال ، وبهذا تعلم أن ليس الاستثناء من العلّة المنفية بقوله : (لِتَشْقى) حتى تتحير في تقويم معنى الاستثناء فتفزع إلى جعله منقطعا وتقع في كلف لتصحيح النّظم.
وقال الواحدي في «أسباب النزول» : «قال مقاتل : قال أبو جهل والنضر بن الحارث (وزاد غير الواحدي : الوليد بن المغيرة ، والمطعم بن عديّ) للنبي صلىاللهعليهوسلم إنك لتشقى بترك ديننا ، لما رأوا من طول عبادته واجتهاده ، فأنزل الله تعالى : (طه* ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) الآية ، وليس فيه سند.
والتذكرة : خطور المنسي بالذهن ؛ فإن التوحيد مستقرّ في الفطرة والإشراك مناف لها ، فالدعوة إلى الإسلام تذكير لما في الفطرة أو تذكير لملّة إبراهيم عليه.
و (لِمَنْ يَخْشى) هو المستعد للتأمل والنظر في صحة الدّين ، وهو كل من يفكّر للنجاة في العاقبة ، فالخشية هنا مستعملة في المعنى العربي الأصلي ، ويجوز أن يراد بها المعنى الإسلامي ، وهو خوف الله ، فيكون المراد من الفعل المآل ، أي من يؤول أمره إلى الخشية بتيسير الله تعالى له التقوى ، كقوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] أي الصائرين إلى التقوى.
و (تَنْزِيلاً) حال من (الْقُرْآنَ) ثانية.