مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩].
والنفخ ، حقيقته : إخراج هواء الفم بتضييق الشفتين. وأطلق هنا تمثيلا لإلقاء روح التكوين للنسل في رحم المرأة دفعة واحدة بدون الوسائل المعتادة تشبيها لهيئة التكوين السريع بهيئة النفخ. وقد قيل : إن الملك نفخ مما هو له كالفم.
والظرفية المفادة ب (في) كون مريم ظرفا لحلول الروح المنفوخ فيها إذ كانت وعاءه ، ولذلك قيل (فِيها) ولم يقل (فيه) للإشارة إلى أن الحمل الذي كوّن في رحمها حمل من غير الطريق المعتاد ، كأنه قيل : فنفخنا في بطنها. وذلك أعرق في مخالفة العادة لأن خرق العادة تقوى دلالته بمقدار ما يضمحل فيه من الوسائل المعتادة.
والروح : هو القوة التي بها الحياة ، قال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] ، أي جعلت في آدم روحا فصار حيا. وحرف (من) تبعيضي ، والمنفوخ روح لأنه جعل بعض روح الله ، أي بعض جنس الروح الذي به يجعل الله الأجسام ذات حياة.
وإضافة الروح إلى الله إضافة تشريف لأنه روح مبعوث من لدن الله تعالى بدون وساطة التطورات الحيوانية للتكوين النسلي.
وجعلها وابنها آية هو من أسباب تشريفهما والتنويه بهما إذ جعلهما الله وسيلة لليقين بقدرته ومعجزات أنبيائه كما قال في [سورة المؤمنين : ٥٠] (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً). وبهذا الاعتبار حصل تشريف بعض المخلوقات فأقسم الله بها نحو : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل : ١] ، (وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) [الشمس : ١ ـ ٢].
وإفراد الآية لأنه أريد بها الجنس. وحيث كان المذكور ذاتين فأخبر عنهما بأنهما آية علم أن كل واحد آية خاصة. ومن لطائف هذا الإفراد أن بين مريم وابنها حالة مشتركة هي آية واحدة ، ثم في كل منهما آية أخرى مستقلة باختلاف حال الناظر المتأمل.
(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢))
(إِنَ) مكسورة الهمزة عند جميع القراء ، فهي ابتداء كلام. واتفقت القراءات المشهورة على رفع (أُمَّتُكُمْ). والأظهر أن الجملة محكية بقول محذوف يدل عليه السياق. وحذف القول في مثله شائع في القرآن.