واعلم أن انتصاب (رَحْمَةً) على أنه حال من ضمير المخاطب يجعله وصفا من أوصافه فإذا انضم إلى ذلك انحصار الموصوف في هذه الصفة صار من قصر الموصوف على الصفة. ففيه إيماء لطيف إلى أن الرسول اتحد بالرحمة وانحصر فيها ، ومن المعلوم أن عنوان الرسولية ملازم له في سائر أحواله ، فصار وجوده رحمة وسائر أكوانه رحمة. ووقوع الوصف مصدرا يفيد المبالغة في هذا الاتحاد بحيث تكون الرحمة صفة متمكنة من إرساله ، ويدلّ لهذا المعنى ما أشار إلى شرحه النبي صلىاللهعليهوسلم بقوله : «إنما أنا رحمة مهداة» (١).
وتفصيل ذلك يظهر في مظهرين : الأول تخلق نفسه الزكية بخلق الرحمة ، والثاني إحاطة الرحمة بتصاريف شريعته.
فأما المظهر الأول فقد قال فيه أبو بكر محمد بن طاهر القيسي الإشبيلي أحد تلاميذه أبي علي الغساني وممن أجاز لهم أبو الوليد الباجي من رجال القرن الخامس : «زين الله محمّدا صلىاللهعليهوسلم بزينة الرحمة فكان كونه رحمة وجميع شمائله رحمة وصفاته رحمة على الخلق» اه. وذكره عنه عياض في «الشفاء». قلت : يعني أن محمدا صلىاللهعليهوسلم فطر على خلق الرحمة في جميع أحوال معاملته الأمة لتتكون مناسبة بين روحه الزكية وبين ما يلقى إليه من الوحي بشريعته التي هي رحمة حتى يكون تلقيه الشريعة عن انشراح نفس أن يجد ما يوحى به إليه ملائما رغبته وخلقه. قالت عائشة : «كان خلقه القرآن». ولهذا خصّ الله محمداصلىاللهعليهوسلم في هذه السورة بوصف الرحمة ولم يصف به غيره من الأنبياء ، وكذلك في القرآن كله ، قال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] وقال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) [آل عمران : ١٥٩] أي برحمة جبلك عليها وفطرك بها فكنت لهم ليّنا. وفي حديث مسلم: أن رسول الله لما شجّ وجهه يوم أحد شقّ ذلك على أصحابه فقالوا : لو دعوت عليهم فقال : «إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة».
وأما المظهر الثاني من مظاهر كونه رحمة للعالمين فهو مظهر تصاريف شريعته ، أي ما فيها من مقومات الرحمة العامة للخلق كلهم لأن قوله تعالى (لِلْعالَمِينَ) متعلق بقوله (رَحْمَةً).
والتعريف في (لِلْعالَمِينَ) لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم العالم. والعالم :
__________________
(١) رواه محمد بن طاهر المقدسي في كتاب «ذخيرة الحفاظ» عن أبي هريرة يصفه بالضعف.