أَرْذَلِ الْعُمُرِ).
وجيء بقوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) على وجه الاعتراض استقراء لأحوال الأطوار الدالة على عظيم القدرة والحكمة الإلهية مع التنبيه على تخلل الوجود والعدم أطوار الإنسان بدءا ونهاية كما يقتضيه مقام الاستدلال على البعث. والمعنى : ومنكم من يتوفى قبل بلوغ بعض الأطوار. وأما أصل الوفاة فهي لاحقة لكل إنسان لا لبعضهم ، وقد صرح بهذا في سورة المؤمن [٦٧] : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ).
وقوله (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) هو عديل قوله تعالى : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى). وسكت عن ذكر الموت بعد أرذل العمر لأنه معلوم بطريقة لحسن الخطاب.
وجعل انتفاء علم الإنسان عند أرذل العمر علة لردّه إلى أرذل العمر باعتبار أنه علّة غائية لذلك لأنه مما اقتضته حكمة الله في نظام الخلق فكان حصوله مقصودا عند ردّ الإنسان إلى أرذل العمر ، فإن ضعف القوى الجسمية يستتبع ضعف القوى العقلية. قال تعالى : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) [يس : ٦٨] فالخلق يشمل كل ما هو من الخلقة ولا يختص بالجسم.
وقوله (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ) أي بعد ما كان علمه فيما قبل أرذل العمر.
و (من) الداخلة على (بعد) هنا مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش وابن مالك من عدم انحصار زيادة (من) في خصوص جرّ النكرة بعد نفي وشبهه ، أو هي للابتداء عند الجمهور وهو ابتداء صوري يساوي معنى التأكيد ولذلك لم يؤت ب (من) في قوله تعالى : (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) في [سورة النحل : ٧٠].
والآيتان بمعنى واحد فذكر (من) هنا تفنّن في سياق العبرتين.
و (شَيْئاً) واقع في سياق النفي يعم كل معلوم ، أي لا يستفيد معلوما جديدا. ولذلك مراتب في ضعف العقل بحسب توغله في أرذل العمر تبلغ إلى مرتبة انعدام قبوله لعلم جديد ، وقبلها مراتب من الضعف متفاوتة كمرتبة نسيان الأشياء ومرتبة الاختلاط بين المعلومات وغير ذلك.
(وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).