كانوا في صور الآدميين لكنهم لا يأكلون الطعام وأكل الطعام من لوازم الحياة ، فلزمهم لما قالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام أن يكونوا قائلين بأن شأن الرسل أن يكونوا أجسادا بلا أرواح ، وهذا من السخافة بمكانة.
وأما قوله : (وَما كانُوا خالِدِينَ) فهو زيادة استدلال لتحقيق بشريتهم استدلالا بما هو واقع من عدم كفاءة أولئك الرسل كما هو معلوم بالمشاهدة ، لقطع معاذير الضالين ، فإن زعموا أن قد كان الرسل الأولون مخالفين للبشر فما ذا يصنعون في لحاق الفناء إياهم. فهذا وجه زيادة (وَما كانُوا خالِدِينَ).
وأتي في نفي الخلود عنهم بصيغة (ما كانُوا) تحقيقا لتمكن عدم الخلود منهم.
(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩))
(ثُمَ) عاطفة الجملة على الجمل السابقة فهي للترتيب الرتبي. والمعنى : وأهمّ مما ذكر أنّا صدقناهم الوعد فأنجيناهم وأهلكنا الذين كذبوهم. ومضمون هذا أهم في الغرضين التبشير والإنذار. فالتبشير للرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين بأن الله صادقه وعده من النصر ، والإنذار لمن ماثل أقوام الرسل الأولين.
والمراد بالوعد وعدم النصر على المكذبين بقرينة قوله تعالى (فَأَنْجَيْناهُمْ) المؤذن بأنه وعد عذاب لأقوامهم ، فالكلام مسوق مساق التنويه بالرسل الأولين ، وهو تعريض بوعيد الذين قالوا (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥]. وفي هذا تقريع للمشركين ، أي إن كان أعجبكم ما أتى به الأولون فسألتم من رسولكم مثله فإن حالكم كحال الذين أرسلوا إليهم فترقبوا مثل ما نزل بهم ويترقب رسولكم مثل ما لقي سلفه. وهذا كقوله تعالى : (قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) في سورة [يونس : ١٠٢].
وانتصب الوعد ب (صَدَقْناهُمُ) على التوسع بنزع حرف الجر. وأصل الاستعمال أن يقال : صدقناهم في الوعد ، لأن (صدق) لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. وهذا الحذف شائع في الكلام ومنه في مثل هذا ما في المثل «صدقني سنّ بكره» (١).
__________________
(١) في «مجمع الأمثال» للميداني يضرب مثلا في الصدق. وأصله أن رجلا ساوم آخر في بكر وهو الفتى من الإبل ، وقال : ما سنه؟ قال : بازل ، وهو الكهل من الإبل فنفر البعير فدعاه صاحبه هدع هدع وهو صوت تسكن به الصغار من الإبل ، فقال المساوم : «صدقني سن بكره».