والإتيان بصيغة المستقبل في قوله تعالى (مَنْ نَشاءُ) احتباك ، والتقدير : فأنجيناهم ومن شئنا وننجي رسولنا ومن نشاء منكم ، وهو تأميل لهم أن يؤمنوا لأن من المكذبين يوم نزول هذه الآية من آمنوا فيما بعد إلى يوم فتح مكة.
وهذا من لطف الله بعباده في ترغيبهم في الإيمان ، ولذلك لم يقل : ونهلك المسرفين ، بل عاد إلى صيغة المضي الذي هو حكاية لما حلّ بالأمم السالفة وبقي المقصود من ذكر الذين أهلكوا وهو التعريض بالتهديد والتحذير أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك مع عدم التصريح بالوعيد.
والمسرفون : المفرطون في التكذيب بالإصرار والاستمرار عليه حتى حل بهم العذاب.
(لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))
استئناف جواب عن قولهم (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) [الأنبياء : ٥] بإيقاظهم إلى أن الآية التي جاءتهم هي أعظم من الآيات التي أرسل بها الأولون ، وتجهيلا لألبابهم التي لم تدرك عظم الآية التي جاءتهم كما أنبأ بذلك موقع هذه الجملة في هذا المكان.
وفي ضمير ذلك تحقيق لكون القرآن حقا ، وتذكير بما يشتمل عليه من المنافع التي عموا عنها فيما حكي عنهم أول السورة بقوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) [الأنبياء : ٢ ـ ٣] كما أنبأ بذلك ظاهر معنى الآية.
ولقصد هذا الإيقاظ صدّرت الجملة بما يفيد التحقيق من لام القسم وحرف التحقيق وجعل إنزال الكتاب إليهم كما اقتضته تعدية فعل (أَنْزَلْنا) بحرف (إلى) شأن تعدية فعل الإنزال أن يكون المجرور ب «إلى» هو المنزّل إليه فجعل الإنزال إليهم لكونهم بمنزلة من أنزل إليه نظرا إلى أن الإنزال كان لأجلهم ودعوتهم. وذلك أبلغ من أن يقال : لقد أنزلنا لكم.
وتنكير (كِتاباً) للتعظيم إيماء إلى أنه جمع خصلتين عظيمتين : كونه كتاب هدى ، وكونه آية ومعجزة للرسول صلىاللهعليهوسلم لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله أو مدانيه.
والذكر يطلق على التذكير بما فيه الصلاح ، ويطلق على السمعة والصيت كقوله (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ) زكرياء [مريم : ٢]. وقد أوثر هذا المصدر هنا وجعل معرفا