وفي حكاية هذا تعريض بالرد على أهل الجاهلية إذ كانوا يمنعون الأكل من الهدايا.
ثم عاد الأسلوب إلى الغيبة في قوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) [الحج : ٢٩].
ويحتمل أن تكون جملة (فَكُلُوا مِنْها) إلخ معترضة مفرّعة على خطاب إبراهيم ومن معه تفريع الخبر على الخبر تحذيرا من أن يمنع الأكل من بعضها.
والأيام المعلومات أجملت هنا لعدم تعلّق الغرض ببيانها إذ غرض الكلام ذكر حجّ البيت وقد بينت عند التعرض لأعمال الحج عند قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣].
والبائس : الذي أصابه البؤس ، وهو ضيق المال ، وهو الفقير ، هذا قول جمع من المفسرين. وفي «الموطأ» : في باب ما يكره من أكل الدواب ، قال مالك : سمعت أن البائس هو الفقير اه. وقلت : من أجل ذلك لم يعطف أحد الوصفين على الآخر لأنه كالبيان له وإنما ذكر البائس مع أنّ الفقير مغن عنه لترقيق أفئدة الناس على الفقير بتذكيرهم أنه في بؤس لأن وصف فقير لشيوع تداوله على الألسن صار كاللقب غير مشعر بمعنى الحاجة وقد حصل من ذكر الوصفين التأكيد. وعن ابن عباس : البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه ، والفقير : الذي تكون ثيابه نقيّة ووجهه وجه غني.
فعلى هذا التفسير يكون البائس هو المسكين ويكون ذكر الوصفين لقصد استيعاب أحوال المحتاجين والتنبيه إلى البحث عن موقع الامتناع.
(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))
هذا من جملة ما خاطب الله به إبراهيم عليهالسلام.
وقرأ ورش عن نافع ، وقنبل عن ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ـ بكسر لام ـ (لْيَقْضُوا). وقرأه الباقون ـ بسكون اللام ـ. وهما لغتان في لام الأمر إذا وقعت بعد (ثم) ، كما تقدم آنفا في قوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) [الحج : ١٥].
و (ثم) هنا عطفت جملة على جملة فهي للتراخي الرتبي لا الزمني فتفيد أنّ المعطوف بها أهم في الغرض المسوق إليه الكلام من المعطوف عليه. وذلك في الوفاء بالنذر والطواف بالبيت العتيق ظاهر إذ هما نسكان أهم من نحر الهدايا ، وقضاء التّفث محول على أمر مهم كما سنبينه.