تصل إلى الله من تلك الهدايا هي تسليمها للنفع بها.
وهذا قياس على أصل حفظ الأموال كما فرضوه في بيع الفرس الحبس إذا أصابه ما يفضي به إلى الهلاك أو عدم النفع ، وهي المعاوضة لربع الحبس إذا خرب.
وحكم الهدايا مركب من تعبّد وتعليل ، ومعنى التعليل فيه أقوى ، وعلّته انتفاع المسلمين ، ومسلك العلّة الإيماء الذي في قوله تعال : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الحج : ٣٦].
واعلم أن توهم التقرب بتلطيخ دماء القرابين وانتفاع المتقرب إليه بتلك الدماء عقيدة وثنية قديمة فربما كانوا يطرحون ما يتقربون به من لحم وطعام فلا يدعون أحدا يأكله. وكان اليونان يشوون لحوم القرابين على النار حتى تصير رمادا ويتوهمون أنّ رائحة الشواء تسرّ الآلهة المتقرب إليها بالقرابين ، وكان المصريّون يلقون الطعام للتماسيح التي في النيل لأنها مقدّسة.
وقرأ الجمهور (يَنالَ) ، و (يَنالُهُ) بتحتية في أولهما. وقرأه يعقوب بفوقية على مراعاة ما يجوز في ضمير جمع غير العاقل. وربما كانوا يقذفون بمزع من اللحم على أنها لله فربما أصابها محتاج وربما لم يتفطن لها فتأكلها السّباع أو تفسد.
ويشمل التقوى ذكر اسم الله عليها والتصدّق ببعضها على المحتاجين.
و (يَنالُهُ) مشاكلة ل (يَنالَ) الأول ، استعير النيل لتعلّق العلم. شبه علم الله تقواهم بوصول الشيء المبعوث إلى الله تشبيها وجّهه الحصول في كلّ وحسنته المشاكلة.
و (من) في قوله (مِنْكُمْ) ابتدائية. وهي ترشيح للاستعارة ، ولذلك عبّر بلفظ (التَّقْوى مِنْكُمْ) دون : تقواكم أو التقوى. مجردا مع كون المعدول عنه أوجز لأنّ في هذا الإطناب زيادة معنى من البلاغة.
(كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)).
تكرير لجملة : (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) [الحج : ٣٦] ، وليبنى عليه التنبيه إلى أن الثناء على الله مسخّرها هو رأس الشكر المنبه عليه في الآية السابقة ، فصار مدلول الجملتين مترادفا. فوقع التأكيد. فالقول في جملة (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ) كالقول في أشباهها.