الموجب إخراجهم ، فإن للمرء حقا في وطنه ومعاشرة قومه ، وهذا الحق ثابت بالفطرة لأن من الفطرة أن الناشئ في أرض والمتولّد بين قوم هو مساو لجميع أهل ذلك الموطن في حق القرار في وطنهم وبين قومهم بالوجه الذي ثبت لجمهورهم في ذلك المكان من نشأة متقادمة أو قهر وغلبة لسكانه ، كما قال عمر بن الخطاب : «إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام». ولا يزول ذلك الحق إلّا بموجب قرره الشّرع أو العوائد قبل الشرع. كما قال زهير :
فإن الحق مقطعه ثلاث |
|
يمين أو نفار أو جلاء |
فمن ذلك في الشرائع التغريب والنّفي ، ومن ذلك في قوانين أهل الجاهلية الجلاء والخلع ، وإنما يكون ذلك لاعتداء يعتديه المرء على قومه لا يجدون له مسلكا من الردع غير ذلك.
ولذلك قال تعالى : (بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) فإن إيمانهم بالله لا ينجر منه اعتداء على غيرهم إذ هو شيء قاصر على نفوسهم والإعلان به بالقول لا يضر بغيرهم. فالاعتداء عليهم بالإخراج من ديارهم لأجل ذلك ظلم بواح واستخدام للقوة في تنفيذ الظلم.
والاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) استثناء من عموم الحق ، ولما كان المقصود من الحق حقا يوجب الإخراج ، أي الحقّ عليهم ، كان هذا الاستثناء مستعملا على طريقة الاستعارة التهكمية ، أي إن كان عليهم حق فهو أن يقولوا ربنا الله ، فيستفاد من ذلك تأكيد عدم الحق عليهم بسبب استقراء ما قد يتخيّل أنه حق عليهم. وهذا من تأكيد الشيء بما يوهم نقضه. ويسمى عند أهل البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وشاهده قول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم |
|
بهنّ فلول من قراع الكتائب |
وهذه الآية لا محالة نزلت بالمدينة.
(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
اعتراض بين جملة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) [الحج : ٣٩] إلخ وبين قوله (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) [الحج : ٤١] إلخ. فلما تضمنت جملة (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) [الحج : ٣٩]