وقوله : (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) معناه فأمليت لهم ، فوضع الظاهر موضع الضمير للإيماء إلى أن علة الإملاء لهم ثم أخذهم هو الكفر بالرسل تعريضا بالنذارة لمشركي قريش.
والأخذ حقيقته : التناول لما لم يكن في اليد ، واستعير هنا للقدرة عليهم بتسليط الإهلاك بعد إمهالهم ، ومناسبة هذه الاستعارة أن الإملاء لهم يشبه بعد الشيء عن متناوله فشبّه انتهاء ذلك الإملاء بالتناول ، شبه ذلك بأخذ الله إياهم عنده ، لظهور قدرته عليهم بعد وعيدهم ، وهذا الأخذ معلوم في آيات أخرى عدا أن قوم إبراهيم لم يتقدم في القرآن ذكر لعذابهم أو أخذهم سوى أن قوله تعالى في [سورة الأنبياء : ٧٠] (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) مشير إلى سوء عاقبتهم مما أرادوا به من الكيد ، وهذه الآية صريحة في ذلك كما أشرنا إليه هنالك.
ومناسبة عدّ قوم إبراهيم هنا في عداد الأقوام الذين أخذهم الله دون الآيات الأخرى التي ذكر فيها من أخذوا من الأقوام ، أنّ قوم إبراهيم أتمّ شبها بمشركي قريش في أنهم كذبوا رسولهم وآذوه. وألجئوه إلى الخروج من موطنه (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩]. فكان ذكر إلجاء قريش المؤمنين إلى الخروج من موطنهم في قوله : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) [الحج : ٤٠] مناسبة لذكر قوم إبراهيم.
والإملاء : ترك المتلبّس بالعصيان دون تعجيل عقوبته وتأخيرها إلى وقت متأخر حتى يحسب أنه قد نجا ثم يؤخذ بالعقوبة.
والفاء في (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) للتعقيب دلالة على أن تقدير هلاكهم حاصل من وقت تكذيبهم وإنما أخر لهم ، وهو تعقيب موزع ، فلكل قوم من هؤلاء تعقيب إملائه ، والأخذ حاصل بعد الإملاء بمهلة ، فلذلك عطف فعله بحرف المهلة.
وعطفت جملة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) بالفاء لأنّ حق ذلك الاستفهام أن يحصل عند ذكر ذلك الأخذ ، وهو استفهام تعجيبي ، أي فأعجب من نكيري كيف حصل. ووجه التعجيب منه أنهم أبدلوا بالنعمة محنة ، وبالحياة هلاكا ، وبالعمارة خرابا فهو عبرة لغيرهم.
والنكير : الإنكار الزجري لتغيير الحالة التي عليها الذي ينكر عليه :
و (نَكِيرِ) ـ بكسرة في آخره ـ دالة على ياء المتكلم المحذوفة تخفيفا.
وكأنّ مناسبة اختيار النكير في هذه الآية دون العذاب ونحوه أنه وقع بعد التنويه بالنهي عن المنكر لينبه المسلمين على أن يبذلوا في تغيير المنكر منتهى استطاعتهم ، فإن