الله عاقب على المنكر بأشد العقاب ، فعلى المؤمنين الائتساء بصنع الله ، وقد قال الحكماء: إنّ الحكمة هي التشبه بالخالق بقدر ما تبلغه القوة الإنسانية ، وفي هذا المجال تتسابق جياد الهمم.
(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥))
تفرع ذكر جملة (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) على جملة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) [الحج : ٤٤] فعطفت عليها بفاء التفريع ، والتعقيب في الذكر لا في الوجود ، لأن الإملاء لكثير من القرى ثم أخذها بعد الإملاء لها يبين كيفيّة نكير الله وغضبه على القرى الظالمة ويفسره ، فناسب أن يذكر التفسير عقب المفسر بحرف التفريع ، ثم هو يفيد بما ذكر فيه من اسم كثرة العدد شمولا للأقوام الذين ذكروا من قبل في قوله : (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) [الحج : ٤٢] إلى آخره فيكون لتلك الجملة بمنزلة التذييل.
و (فَكَأَيِّنْ) اسم دال على الإخبار عن عدد كثير.
وموضعها من الجملة محل رفع بالابتداء وما بعده خبر. والتقدير : كثير من القرى أهلكناها ، وجملة (أَهْلَكْناها) الخبر.
ويجوز كونها في محل نصب على المفعولية بفعل محذوف يفسره (أَهْلَكْناها) والتقدير : أهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها ، والأحسن الوجه الأول لأنه يحقق الصدارة التي تستحقها (كأيّن) بدون حاجة إلى الاكتفاء بالصدارة الصورية ، وعلى الوجه الأول فجملة (أَهْلَكْناها) في محل جر صفة ل (قَرْيَةٍ). وجملة (فَهِيَ خاوِيَةٌ) معطوفة على جملة (أَهْلَكْناها) ، وقد تقدم نظيره في قوله (وَكَأَيِّنْ مِنْ) نبيء في [سورة آل عمران : ١٤٦].
وأهل المدن الذين أهلكهم الله لظلمهم كثيرون ، منهم من ذكر في القرآن مثل عاد وثمود. ومنهم من لم يذكر مثل طسم وجديس وآثارهم باقية في اليمامة.
ومعنى (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أنها لم يبق فيها سقف ولا جدار. وجملة (عَلى عُرُوشِها) خبر ثان عن ضمير (فَهِيَ) والمعنى : ساقطة على عروشها ، أي ساقطة جدرانها فوق سقفها.
والعروش : جمع عرش ، وهو السقف ، وقد تقدم تفسير نظير هذه الآية عند قوله