وأرغموهم على مغادرة موطنهم فيكون عقابهم على ذلك بإخراج من يمكنهم أن يخرجوه من ذلك الوطن. ولا يستطيعون ذلك إلا بالجهاد لأنّ المشركين كانوا أهل كثرة وكانوا مستعصمين ببلدهم فإلجاء من يمكن إلجاؤه إلى مفارقة وطنه ، إما بالقتال فهو إخراج كامل ، أو بالأسر.
و (ثُمَ) من قوله : (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) عطف على جملة (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) ، ف (ثم) للتراخي الرتبي فإن البغي عليه أهم من كونه عاقب بمثل ما عوقب به إذ كان مبدوءا بالظلم كما يقال «البادئ أظلم». فكان المشركون محقوقين بأن يعاقبوا لأنهم بغوا على المسلمين. ومعنى الآية في معني قوله : (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [التوبة : ١٣].
وكان هذا شرعا لأصول الدفاع عن البيضة ، وأما آيات الترغيب في العفو فليس هذا مقام تنزيلها وإنما هي في شرع معاملات الأمة بعضها مع بعض ، وقد أكد لهم الله نصره إن هم امتثلوا لما أذنوا به وعاقبوا بمثل ما عوقبوا به ، وللمفسرين في تقرير هذه الآية تكلفات تنبئ عن حيرة في تلئيم معانيها.
وجملة (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) تعليل للاقتصار على الإذن في العقاب بالمماثلة في قوله : (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) دون الزيادة في الانتقام مع أن البادئ أظلم بأن عفو الله ومغفرته لخلقه قضيا بحكمته أن لا يأذن إلا بمماثلة العقاب للذنب لأن ذلك أوفق بالحق. ومما يؤثر عن كسرى أنه قيل له : بم دام ملككم؟ فقال : لأننا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب ، فليس ذكر وصفي (لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إيماء إلى الترغيب في العفو عن المشركين.
ويجوز أن يكون تعليلا للوعد بجزاء المهاجرين اتباعا للتعليل في قوله : (إِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) [الحج : ٥٩] لأن الكلام مستمر في شأنهم.
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١))
ليس اسم الإشارة مستعملا في الفصل بين الكلامين مثل شبيهه الذي قبله ، بل الإشارة هنا إلى الكلام السابق الدال على تكفل النصر ، فإن النصر يقتضي تغليب أحد الضدّين على ضدّه وإقحام الجيش في الجيش الآخر في الملحمة ، فضرب له مثلا بتغليب