أوتي رشدا وهديا.
وكذلك الإخبار عن إيتاء الرشد إبراهيم بإسناد الإيتاء إلى ضمير الجلالة لمثل ما قرّر في قصة موسى وهارون للتنبيه على تفخيم ذلك الرشد الذي أوتيه.
والرشد : الهدى والرأي الحق ، وضده الغي ، وتقدم في قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) في [سورة البقرة : ٢٥٦]. وإضافة (الرُّشْدُ) إلى ضمير إبراهيم من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي الرشد الذي أرشده. وفائدة الإضافة هنا التنبيه على عظم شأن هذا الرشد ، أي رشدا يليق به ؛ ولأن رشد إبراهيم قد كان مضرب الأمثال بين العرب وغيرهم ، أي هو الذي علمتم سمعته التي طبقت الخافقين فما ظنكم برشد أوتيه من جانب الله تعالى ، فإن الإضافة لما كانت على معنى اللام كانت مفيدة للاختصاص فكأنه انفرد به. وفيه إيماء إلى أن إبراهيم كان قد انفرد بالهدى بين قومه.
وزاده تنويها وتفخيما تذييله بالجملة المعترضة قوله تعالى : (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي آتيناه رشدا عظيما على علم منا بإبراهيم ، أي بكونه أهلا لذلك الرشد ، وهذا العلم الإلهي متعلق بالنفسية العظيمة التي كان بها محل ثناء الله تعالى عليه في مواضع كثيرة من قرآنه ، أي علم من سريرته صفات قد رضيها وأحمدها فاستأهل بها اتخاذه خليلا. وهذا كقوله تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) [الدخان : ٣٢] وقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ) رسالاته [الأنعام : ١٢٤].
وقوله (مِنْ قَبْلُ) أي من قبل أن نؤتي موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا. ووجه ذكر هذه القبلية التنبيه على أنه ما وقع إيتاء الذكر موسى وهارون إلا لأن شريعتهما لم تزل معروفة مدروسة.
و (إِذْ قالَ) ظرف لفعل (آتَيْنا) أي كان إيتاؤه الرشد حين قال لأبيه وقومه : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) إلخ ، فذلك هو الرشد الذي أوتيه ، أي حين نزول الوحي إليه بالدعوة إلى توحيد الله تعالى ، فذلك أول ما بدئ به من الوحي.
وقوم إبراهيم كانوا من (الكلدان) وكان يسكن بلدا يقال له (كوثى) بمثلثة في آخره بعدها ألف. وهي المسماة في التوراة (أور الكلدان) ، ويقال : أيضا إنها (أورفة) في (الرها) ، ثم سكن هو وأبوه وأهله (حاران) وحاران هي (حرّان) ، وكانت بعد من بلاد الكلدان كما هو مقتضى الإصحاح ١٢ من التكوين لقوله فيه : «اذهب من أرضك ومن