وجملة : (أَنْزَلْناها) وما عطف عليها في موضع الصفة ل (سُورَةٌ). والمقصود من تلك الأوصاف التنويه بهذه السورة ليقبل المسلمون بشراشرهم على تلقي ما فيها. وفي ذلك امتنان على الأمة بتحديد أحكام سيرتها في أحوالها.
ففي قوله : (أَنْزَلْناها) تنويه بالسورة بما يدل عليه «أنزلنا» من الإسناد إلى ضمير الجلالة الدال على العناية بها وتشريفها. وعبر ب «أنزلنا» عن ابتداء إنزال آياتها بعد أن قدرها الله بعلمه بكلامه النفسي. فالمقصود من إسناد إنزالها إلى الله تعالى تنويه بها. وعبر عن إنزالها بصيغة المضي وإنما هو واقع في الحال باعتبار إرادة إنزالها ، فكأنه قيل : أردنا إنزالها وإبلاغها ، فجعل ذلك الاعتناء كالماضي حرصا عليه. وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة وقوعه كقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] الآية.
والقرينة قوله : (وَفَرَضْناها) ومعنى (فَرَضْناها) عند المفسرين : أوجبنا العمل بما فيها. وإنما يليق هذا التفسير بالنظر إلى معظم هذه السورة لا إلى جميعها فإن منها ما لا يتعلق به عمل كقوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] الآيات وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) [النور : ٣٩].
فالذي أختاره أن يكون الفرض هنا بمعنى التعيين والتقدير كقوله تعالى : (نَصِيباً مَفْرُوضاً) [النساء : ٧] وقوله : (ما كانَ عَلَى) النبي (مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) [الأحزاب : ٣٨]. وتعدية فعل «فرضنا» إلى ضمير السورة من قبيل ما يعبر عنه في مسائل أصول الفقه من إضافة الأحكام إلى الأعيان بإرادة أحوالها ، مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] ، أي أكلها. فالمعنى : وفرضنا آياتها. وسنذكر قريبا ما يزيد هذا بيانا عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) [النور : ٣٤] وكيف قوبلت الصفات الثلاث المذكورة هنا بالصفات الثلاث المذكورة هنالك.
وقرأ الجمهور : (وَفَرَضْناها) بتخفيف الراء بصيغة الفعل المجرد. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو (وَفَرَضْناها) بتشديد الراء للمبالغة مثل نزّل المشدّد. ونقل في حواشي «الكشاف» عن الزمخشري قوله :
كأنه عامل في دين سؤدده |
|
بسورة أنزلت فيه وفرّضت |
وهذان الحكمان وهما الإنزال والفرض ثبتا لجميع السورة.
وأما قوله : (أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ) فهو تنويه آخر بهذه السورة تنويه بكل آية