وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تهييج وإلهاب لهم يبعث حرصهم على أن لا يعودوا لمثله لأنهم حريصون على إثبات إيمانهم ، فالشرط في مثل هذا لا يقصد بالتعليق ، إذ ليس المعنى : إن لم تكونوا مؤمنين فعودوا لمثله ، ولكن لما كان احتمال حصول مفهوم الشرط مجتنبا كان في ذكر الشرط بعث على الامتثال ، فلو تكلم أحد في الإفك بعد هذه الآية معتقدا وقوعه فمقتضى الشرط أنه يكون كافرا وبذلك قال مالك. قال ابن العربي : قال هشام بن عمار (١) : «سمعت مالكا يقول : من سبّ أبا بكر وعمر أدّب ، ومن سبّ عائشة قتل لأن الله يقول : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فمن سبّ عائشة فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قتل» ا ه. يريد بالمخالفة إنكار ما جاء به القرآن نصا وهو يرى أن المراد بالعود لمثله في قضية الإفك لأن الله برأها بنصوص لا تقبل التأويل ، وتواتر أنها نزلت في شأن عائشة. وذكر ابن العربي عن الشافعية أن ذلك ليس بكفر. وأما السب بغير ذلك فهو مساو لسبّ غيرها من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم.
(وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) أي يجعلها لكم واضحة الدلالة على المقصود والآيات : آيات القرآن النازلة في عقوبة القذف وموعظة الغافلين عن المحرمات.
ومناسبة التذكير بصفتي العلم والحكمة ظاهرة.
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩))
لما حذر الله المؤمنين من العود إلى مثل ما خاضوا به من الإفك على جميع أزمنة المستقبل أعقب تحذيرهم بالوعيد على ما عسى أن يصدر منهم في المستقبل بالوعيد على محبة شيوع الفاحشة في المؤمنين ؛ فالجملة استئناف ابتدائي ، واسم الموصول يعم كل من يتصف بمضمون الصلة فيعم المؤمنين والمنافقين والمشركين ، فهو تحذير للمؤمنين وإخبار عن المنافقين والمشركين.
وجعل الوعيد على المحبة لشيوع الفاحشة في المؤمنين تنبيها على أن محبة ذلك
__________________
(١) هشام بن عمار السلمي الدمشقي الحافظ المقرئ الخطيب. سمع مالكا وخالقا. وثقه ابن معين. توفي سنة / ٢٤٥ / ه. وعاش اثنتين وتسعين سنة. لم يترجمه عياض في «المستدرك» ولا ابن فرحون في «الديباج» ، فالظاهر أنه لم يكن من أتباع مالك. وقد ذكره الذهبي في «الكاشف» والمزي في «تهذيب الكمال».