ففي قوله : (يَقُولُونَ) إيماء إلى أن حظهم من الإيمان مجرد القول دون الاعتقاد كما قال تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤].
وعبر بالمضارع لإفادة تجدد ذلك منهم واستمرارهم عليه لما فيه من تكرر الكذب ونحوه من خصال النفاق التي بينتها في سورة البقرة. ومفعول (أَطَعْنا) محذوف دل عليه ما قبله ، أي أطعنا الله والرسول.
والإشارة في قوله : (وَما أُولئِكَ) إلى ضمير (يَقُولُونَ) ، أي يقولون آمنّا وهم كاذبون في قولهم. وإنما يظهر كفرهم عند ما تحل بهم النوازل والخصومات فلا يطمئنون بحكم رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ولا يصح جعله إشارة إلى (فَرِيقٌ) من قوله : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) لأن إعراضهم كاف في الدلالة على عدم الإيمان.
فالضمير في قوله : (وَإِذا دُعُوا) عائد إلى معاد ضمير (يَقُولُونَ). وإسناد فعل (دُعُوا) إلى جميعهم وإن كان المعرضون فريقا منهم لا جميعهم للإشارة إلى أنهم سواء في التهيؤ إلى الإعراض ولكنهم لا يظهرونه إلا عند ما تحل بهم النوازل فالمعرضون هم الذين حلت بهم الخصومات.
وقد شملت الآية نفرا من المنافقين كانوا حلت بهم خصومات فأبوا حكم النبيصلىاللهعليهوسلم قبل أن يحكم عليهم أو بعد ما حكم عليهم فلم يرضهم حكمه ، فروى المفسرون أن بشرا أحد الأوس أو الخزرج تخاصم إلى النبي صلىاللهعليهوسلم مع يهودي فلما حكم النبي لليهودي لم يرض بشر بحكمه ودعاه إلى الحكم عند كعب بن الأشرف اليهودي فأبى اليهودي وتساوقا إلى عمر بن الخطاب فقصّا عليه القضية فلما علم عمر أن بشرا لم يرض بحكم النبي قال لهما : مكانكما حتى آتيكما. ودخل بيته فأخرج سيفه وضرب بشرا بالسيف فقتله. فروي أن النبي صلىاللهعليهوسلم لقب عمر يومئذ الفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل ، أي فرق بينهما بالمشاهدة. وقيل : إن أحد المنافقين اسمه المغيرة بن وائل من الأوس من بني أمية بن زيد الأوسي تخاصم مع علي بن أبي طالب في أرض اقتسماها ثم كره أمية القسم الذي أخذه فرام نقض القسمة وأبى علي نقضها ودعاه إلى الحكومة لدى النبي صلىاللهعليهوسلم. فقال المغيرة : أما محمد فلست آتية لأنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علي. فنزلت هذه الآية. وتقدم ذلك عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية في سورة