وإن شئت فازعم أنّ من فوق ظهرها |
|
عبيدك واستشهد إلهك يشهد |
وهل أغرب من هذا الزعم لو كانت الغرابة مقتضية ذكر مفعول المشيئة. فلما دل عليه مفعول جواب الشرط حسن حذفه من فعل الشرط.
وجملة (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) مستأنفة قصدوا بها تكذيب الدعوة بعد تكذيب الداعي ، فلذلك جيء بها مستأنفة غير معطوفة تنبيها على أنها مقصودة بذاتها وليست تكملة لها قبلها ، بخلاف أسلوب عطف جملة : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) إذ كان مضمونها من تمام غرض ما قبلها.
فالإشارة ب (هذا) إلى الكلام الذي قاله نوح ، أي ما سمعنا بأن ليس لنا إله غير الله في مدة أجدادنا ، فالمقصود بالإشارة معنى الكلام لا نفسه ، وهو استعمال شائع. ولما كان حرف الظرفية يقتضي زمنا تعين أن يكون مدخوله على تقدير مضاف ، أي في مدة آبائنا لأن الآباء لا يصلح للظرفية. والآباء الأولون هم الأجداد.
ولما كان السماع المنفي ليس سماعا بآذانهم لكلام في زمن آبائهم بل المراد ما بلغ إلينا وقوع مثل هذا في زمن آبائنا ، عدّي فعل (سَمِعْنا) بالباء لتضمينه معنى الاتصال. جعلوا انتفاء علمهم بالشيء حجة على بطلان ذلك الشيء ، وهو مجادلة سفسطائيّة إذ قد يكون انتفاء العلم عن تقصير في اكتساب المعلومات ، وقد يكون لعدم وجود سبب يقتضي حدوث مثله بأن كان الناس على حق فلم يكن داع إلى مخاطبتهم بمثل ذلك ، وقد كان الناس من زمن آدم على الفطرة حتى حدث الشرك في الناس فأرسل الله نوحا فهو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض كما ورد في حديث الشفاعة.
وجملة (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) استئناف بياني لأن جميع ما قالوه يثير في نفوس السامعين أن يتساءلوا إذا كان هذا حال دعوته في البطلان والزيف فما ذا دعاه إلى القول بها؟ فيجاب بأنه أصابه خلل في عقله فطلب ما لم يكن ليناله مثله من التفضل على الناس كلهم بنسبتهم إلى الضلال فقد طمع فيما لا يطمع عاقل في مثله فدل طمعه في ذلك على أنه مجنون.
والتنوين في (جِنَّةٌ) للنوعية ، أي هو متلبس بشيء من الجنون ، وهذا اقتصاد منهم في حاله حيث احترزوا من أن يورطوا أنفسهم في وصفه بالخبال مع أن المشاهد من حاله ينافي ذلك فأوهموا قومهم أن به جنونا خفيفا لا يبدو آثاره واضحة.