وجملة (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) معترضة بين المتعاطفة. وهي استئناف بياني لما يؤذن به قوله : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً) من كثرتها ولا يؤذن به وصفهم ب (آخَرِينَ) من جهل الناس بهم ، ولما يؤذن به عطف جملة (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) [المؤمنون : ٤٤] من انقراض هذه القرون بعد الأمة التي ذكرت قصتها آنفا في قوله (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) دون أن تجيئهم رسل ، فكان ذلك كله مما يثير سؤال سائل عن مدة تعميرهم ووقت انقراضهم. فيجاب بالإجمال لأن لكل قرن منهم أجلا عيّنه الله يبقى إلى مثله ثم ينقرض ويخلفه قرن آخر يأتي بعده ، أو يعمّر بعده قرن كان معاصرا له ، وأن ما عيّن لكل قرن لا يتقدمه ولا يتأخر عنه كقوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [يونس : ٤٩].
والسبق : تجاوز السائر وتركه مسايره خلفه ، وعكسه التأخر. والمعنى واضح. والسين والتاء في (يَسْتَأْخِرُونَ) زائدتان للتأكيد مثل : استجاب. وضمير (يَسْتَأْخِرُونَ) عائد إلى (أُمَّةٍ) باعتبار الناس.
(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (٤٤))
الرسل الذين جاءوا من بعد ، أي من بعد هذه القرون منهم إبراهيم ولوط ويوسف وشعيب. ومن أرسل قبل موسى ، ورسل لم يقصصهم الله على رسوله.
والمقصود بيان اطراد سنة الله تعالى في استئصال المكذبين رسله المعاندين في آياته كما دل عليه قوله : (فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً).
و (تَتْرا) قرأه الجمهور بألف في آخره دون تنوين فهو مصدر على وزن فعلى مثل دعوى وسلوى ، وألفه للتأنيث مثل ذكرى ، فهو ممنوع من الصرف. وأصله : وترى بواو في أوله مشتقا من الوتر وهو الفرد. وظاهر كلام اللغويين أنه لا فعل له ، أي فردا فردا ، أي فردا بعد فرد فهو نظير مثنى. وأبدلت الواو تاء إبدالا غير قياسي كما أبدلت في (تجاه) للجهة المواجهة وفي (تولج) لكناس الوحش (وتراث) للموروث.
ولا يقال تترى إلا إذا كان بين الأشياء تعاقب مع فترات وتقطّع. ومنه التواتر وهو تتابع الأشياء وبينها فجوات. والوتيرة : الفترة عن العمل. وأما التعاقب بدون فترة فهو التدارك. يقال : جاءوا متداركين ، أي متتابعين.