ولما اقتضى هذا الدليل بطلان قولهم عقب الدليل بتنزيه الله تعالى عن أقوال المشركين بقوله تعالى : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) وهو بمنزلة نتيجة الدليل. وما يصفونه به هو ما اختصوا بوصفهم الله به من الشركاء في الإلهية ومن تعذر البعث عليه ونحو ذلك وهو الذي جرى فيه غرض الكلام.
وإنما أتبع الاستدلال على انتفاء الشريك بقوله (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) المراد به عموم العلم وإحاطته بكل شيء كما أفادته لام التعريف في (الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) من الاستغراق الحقيقي ، أي عالم كل مغيب وكل ظاهر ، لدفع توهم أن يقال : إن استقلال كل إله بما خلق قد لا يفضي إلى علو بعض الآلهة على بعض ، لجواز أن لا يعلم أحد من الآلهة بمقدار تفاوت ملكوته على ملكوت الآخر فلا يحصل علو بعضهم على بعض لاشتغال كل إله بملكوته. ووجه الدفع أن الإله إذا جاز أن يكون غير خالق لطائفة من المخلوقات التي خلقها غيره لئلا تتداخل القدر في مقدورات واحدة لا يجوز أن يكون غير عالم بما خلقه غيره لأن صفات العلم لا تتداخل ، فإذا علم أحد الآلهة مقدار ملكوت شركائه فالعالم بأشدية ملكوته يعلو على من هو دونه في الملكوت. فظهر أن قوله (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) من تمام الاستدلال على انتفاء الشركاء ، ولذلك فرع عنه بالفاء قوله (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف (عالِمِ الْغَيْبِ) برفع (عالِمِ) على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو من الحذف الشائع في الاستعمال إذا أريد الإخبار عن شيء بعد أن أجريت عليه أخبار أو صفات.
وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم ويعقوب بجر (عالِمِ) على الوصف لاسم الجلالة في قوله (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ).
و (ما) مصدرية. والمعنى فتعالى عن إشراكهم ، أي هو أعظم من أن يكون موصوفا بكونه مشاركا في وصفه العظيم ، أي هو منزه عن ذلك.
[٩٣ ـ ٩٥] (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥))
آذنت الآيات السابقة بأقصى ضلال المشركين وانتفاء عذرهم فيما دانوا به الله تعالى وبغضب الله عليهم لذلك ، وأنهم سواء في ذلك مع الأمم التي عجل الله لها العذاب في